محمد صالح عبد الرضا.. ليس سوى قلم

ثقافة 2024/04/21
...

  سميا صالح

 الشاعر محمد صالح عبد الرضا في ديوانه "الإرجوحة الفارغة"، يعطي انطباعا من خلال الشيئيات الرباعية، انه ذلك الذي يقف بوجه الانكسارات ولا ينحني إلا عند الشعور باستطالة قامته، ولذا نراه في الفلقة البديعة أدناه يحاكي التحدي والموت وقوفا كما السنديان: كل أشجاري تصلح للشيخوخة لكنني لن البّي مطالب الانحناء محمد صيّر الحياة كما إرجوحة بحركتها البندولية الصاعدة النازلة، كما الانساغ والتي ترتفع بنا تارة بشطط جميل متخم بالسعادة. لكنها تارة أخرى سرعان ما تنزل بنا إلى بؤسها وفراغها الذي لا يطاق.
الشاعر يصور لنا من أن دورة الحياة عبارة عن "سجان يمسك سجانا" مثلما قالها مظفر النواب في قصيدة "الحانة القديمة" ولو كان بمستطاع المرء أن يترك باب الحرية للجميع تحت طائلة العيش الرغيد والمساواة لفعلها واستراح. ولكن هذه الحرية هيهات أن تتحقق بالنسبة لشعوبنا التي تخلّفت عن الشعوب الأخرى بأزمنة عديدة لايمكن اللحاق بها في المدى المنظور وهذه نستطيع استدراكها في فلقته المائزة "قفص":"النجار الذي صيرني مكروها تتهمني العصافير بأنّي سجان لو كان بمستطاعتي لفتحت الباب وقلت لهم لتحيا الحرية ليس لدى صالح سوى القلم فهو الذي يحارب به وهو الذي يرسم الجمال به وهو الذي يكتب صرخته به وهو الذي يستطيع أن يرى الشعراء الآخرين به فليس لديه سوى قلم وقلم، بدلا من جنازير الجيوش التي لم تستطع أن تهزم الأناشيد التي يكتبها القلم.
ويبقى القلم هو الذي يصدح لدى صالح كما قالها يوما الشاعر الثوري أحمد مطر جس الطبيب خافقي، وقال لي: هل هنا الألم. قلت له: "نعم/ شق بالمشرط جيب معطفي وأخرج القلم/ هز الطبيب رأسه ومال وابتسم وقال لي/ ليس سوى قلم".
فهذا هو رمز القلم الذي يتحدث عنه صالح في رباعيته الموسومة  "قلم" التي يقول بها: إلى الشاعر أصوب نظري وهو ينام على سطوح القصيدة ويظل ديدن الشاعر محمد حاله حال المبدعين في عالم الشعر في أن يكون مقروءا أبدياً وحسب ما قاله لنا في رباعيته أدناه "ورقة": سيكتبني العاشقون ومن حسراتهم أبكي ويبكون وهذا هو الطبيعي في دورة الإبداع وخلق الفكرة النيرة المستنيرة التي يبقى شعاعها على مدى الأزمان والدهور مثلما قالها يوما الشاعر الهندي رابندرنات طاغور (الذي يهمني ليس الذي يقرؤني الآن، ولكن ما بعد مائة عام). فهنا الشاعر الهندي هو واثق كل الوثوق من أن الشعر لا يندثر وأن الشاعر لا يموت على حد زعم اليوناني "نيقولاس كزانتزاكيس".
أما في شقشقيات الحياة وعبثها فقد مارسها صالح، كما أغلب الشعراء وربما على طريقة أدغار الآن بو حين يكرع حتى الثمالة فيُرمى خارج البار بالركلات والدفعات لعدم دفعه للمال استحقاق ماعبّه في جوفه من خمر. لنقرأ الشاعر في أدناه وموسومية نصه "قدح": يعرفني عصير الرمان يمسك بي الشاربون حتى الثمالة، نعم، فقد أصاب محمد عين القصيد، ولم لا، فقد تغزل بالخمر الفيلسوف الفارابي ذات يوم، إذ يقول: "بزجاجتين قضيت عمري/ وعليهما عولت أمري/ فبذي أدون حكمتي/ وبذي أداوي هموم صدري".
ويبقى الشاعر محمد صالح ينظر للحياة من خلال قصائده بموشوره الرباعي التشيئي والحداثي معاً، أو أنه ينظر ويصرّح (من الضروري أن نكون محدثين بصورة مطلقة، أو ممنوع المنع مثلما اطلقها رامبو) الحداثة هي الحرية التي ناشد بها محمد صالح في بوحه أعلاه.
تمكن صالح من أن يمسك المعاول لتحطيم التقاليد والتراث اللذين يشكلان العبودية الخانقة، الحداثة التي تكلّمت عنها الكثير من المدارس، ومنها الدادائية وأحد أعضاءها البارزين "تزارا".
صالح دائم الغطس في أعماق اللجة الكونية، فينتج نصوصا غاية في التواشج المتصل مع هموم الكائن البشري، نصوصه تتسم برغبتها الجامحة للكشف عن المستور، وفضح المسكوت عن الطغاة، نصوصه انغمست في الروح الثقافية لدى الشاعر وتطلعاته لأن تكون نصلا حاداً من الكلمات ضد كل من تجبّر على بني البشر.
الشاعر بالمختصر عرفته قد شارك في المربد العراقي في السبعينيات، وفي العديد من المهرجانات المحلية وقد أصدر العديد من الدواوين التي يشار لها ببنان المعرفة والترصد والكشف عن الحقيقة كأداء.
إن صالح يرمي من خلال شعره إلى الاحاطة بالفضاءات والمديات الرحبة التي تتسارع فيها وتعمل وتتطور، وتنمو وتتضائل، كل الحيوات والأمم التي ابتليت بالظلم والفجيعة على مدار أجيالها الماضية، ولربما وللأسف أجيالها القادمة الاّ إذا حدث انفجار معرفي هائل ينسف كل التقليد السائد والقيم التي باتت لا تصلح حتى لشروى نقير.