خسارة أن يكون التعبير لهواً

ثقافة 2024/04/22
...

  ياسين طه حافظ

أثارني ما ورد على لسان هزيود في تضرعه للآلهة، إذ تجلت له ربات الفنون وقلن له: {إننا نعرف كيف تقول أشياء كاذبة كثيرة بحيث تبدو كما لو كانت صادقة، ولكننا نعرف أيضاً، حين تشأ، تستطع أن نكشف الحقيقة}.

اذن يمكن لربات الفنون أو وللآداب والفنون، أن تمنح الحقيقة وأن تمنح الكذب أيضاً، وهنا نبتعد عن اخلاقيات الأفراد لنظل مع فعل الفن، فلا نهبط بمستوى الكلام إلى اليومي العابر. 

لست الآن مع الكاذب والصادق ولا الامين والزائف. نحن في الدرس الأدبي، الفلسفي، وعن لغة الفن أو التعبير عنه. فوجهها كالبدر، كلام كذب، ولكن فيه بعض الحقيقة في كونها جميلة في نظره. وكلامها يتساقط كالؤلؤ كذب، ولكن هناك شيئاً حقيقياً خاصاً يشير اليه. وهذا ينقلنا إلى توالي الأساليب وتوالي المدارس الفنية. وهي وأن مضت أو تحول الكتاب أو الشعراء أو الفنانون عنها، كان لها دورها يوماً وكانت من فضليات ما امتلكنا أو ما وصلْنا في التطور الفني اليه، حتى الآن آلاف يجدون سعادتهم ويتمتعون "بحقائق" في الشعر الغنائي وفي الانطباعية وقد أوصلنا التقدم الثقافي والحضاري العام الى شعر اليوم ورسم اليوم ونحت اليوم. من كان بصدق أن يجد الناس تعبيراً عميقاً عن همومهم في التكعيبية مثلاً؟ وفي أزمنة مضت كان اساتذة الكتابة يعلموننا الكلمة الموسيقية واللفظة أو المفردة  الحلوة ويستنكرون الخشنة، صرنا اليوم نجد من الاوثق والأصدق أن نضع عبارة عامية ونرتضي وحشي اللفظ، وحتى دخلت مفردات من المعجم العلمي، من الكيمياء والتشريح والفلاحة والأجهزة المنزلية، لتجد مكانها في النص الأدبي، وتجد قراءة ترحب بها وذائقة ترتضيها. 

اذاً، اللغة التي كانت تبالغ أو كانت تتناءى في الغيبيات أو في الرومانس كانت تكذب، ولكن أن يشأْ الفنان يستطع أن يقدم الحقيقة أو الحقائق بتلك اللغة، وبذلك الأسلوب وبهذه المفردة لا تلك. وهذا هو ما منح الكتابة القديمة مكانة في زمنها ومنح الجديدة مثل ذلك ووجد فيها المنشئ والمتلقي الحقيقة التي تسره أو التي يريد أن يكشفها. ولولا ذلك لما كانت لأكثر من نصف الأدب والرسم قيمة ولا ظل أحد اليوم بعد دهور يجد راحته في كتابات ورسوم الماضي مع ما يجده في كتابات ورسوم اليوم.

ومع تعدد التفاسير لهذه الظاهرة وأمثالها، فأنا شخصياً أراها تعتمد أساسا، أو سبباً يمكننا أن نعزو التحولات له. ذلك أن الناس زمن الغنائية، مثلاً، كانت لهم مشتركات مع أجواء وإيحاءات التعبير عنها. 

وفي التقدم الاجتماعي الحضري، حصلت احتياجات جديدة انتجت أساليب ولغةً للتعبير عنها. وعندما اتسعت العلوم وصارت المفردات العلمية ومدلولاتها في كتب التلامذة، مثلما تلامس المفكرين وأهل الفن، دخلت المفردات العلمية لغة العصر واتضحت فيه فأسهمت، مع مدى اللغة المتوافر، في التعبير عن العالم الجديد الواسع والحياة الجديدة الغنية بتفاصيلها. فهل يمكن القول كل ما يكتب الإنسان يحمل بعضاً من الانسانية فيشاركه الاخرون بما امتلكت كتابته أو ثقافته وفنونه. ولهذا نحب كل آداب وفنون العصور؟ ونرى أن لكل أسلوب ترحيبا من زمنه وفهما حميميا من الأزمنة الأخرى؟ حسناً بعد أن نلنا الكثير من الغضب والازدراء، إن لم يكن الشتم، لأننا استعملنا مفردات مثل السخان والتلفزيون والمطاط والعيادة والاسبرين والسرطان. نشهد اليوم، إن لم يكن قبولاً بها، فلا مبالاة، وبعض من "واقع الحال" وعبارة الاستياء الهادئ: هكذا صارت لغة الشعر! "في الرواية يقل الاعتراض كثيراً، لأن الرواية حياة" وحضور الواقعية فيها أكثر، والتحديث أكثر، ونتيجة ذلك العامية والتعابير الصادمة اللامألوفة أكثر. الشعر الأكثر حداثة والأكثر واقعية، يقارب الرواية في ضخّ التعابير الأكثر دقة وكشفاً دون ايقاعية اللغة النخبوية، أو ذلك النوع المتمَنّى من اللغة- التي ربما تخفي مسعى للسمو، أو الأسطوري على الاعتيادي. اليومي وعلى العوام! بعض الشعراء لا يرون ساعة الكتابة، ساعةً للتفكير والتأمل ولكن للاستيحاء! وهذه مسألة يمكن أن تكون مضحكة ويمكن أن تكون جليلة إن كان المقصود فيها عمق التفكير والتجلي.. يوصلنا هذا الى القول بوضوح: إن هناك شيئاً من عدم الثقة بالأساليب القديمة، وشيئاً من الشك بخداعها، وأنها لا تصور ما يهم الإنسان وما يشغله في عموم حياته تصويراً اميناً ولكن تزويقي متصنّع. وهي حجة قد تُرَدّ، لكنها يجب أن تقال اليوم ما دامت لم تعد تعبّرُ بسلامة وبقدرة انسانية عاقلة عن الإنسان في حياته وهو يعيش، وعن الإنسان في كون بهذه السعة، وقد اتسع ادراكه مما زاد في محنته. فعاد يغض النظر عما يرى من أشياء وحقائق، يتقبلها دونما محاولة فهم أو تغيير، وربما من دون التعبير الحقيقي عنها، فليس سيئاً أن يسمي الأشياء بأسمائها وبما تعني له ويفهم منها!