عدنان حسين أحمد
على الرغم من أن الحرب هي الثيمة الرئيسة لفيلم {مدينة الشعراء} للمخرجة الإيرانية - الهولندية سارة رجائي إلا أن المشاهد لا يجد أثرًا للعنف والقتل والجثث المبعثرة هنا وهناك فهي لا تميل إلى الشعارات التعبوية الصارخة واللغة البصرية الجوفاء التي لا تقول شيئا لأنها {تدرس في عملها مفهوم الزمن من خلال التفكير في غياب الصورة، وعلم نفس الذاكرة، والتاريخ الشفهي، وتقنيات السرد، والفضاء الجسدي/ النفسي}.
كما تميل إلى التأمل العميق الذي يغري المتلقي بالولوج إلى غابة الأسئلة الفلسفية ومنعرجات الجمال المراوغ الذي تلتقطه العين الثالثة التي تتربص بكل ما هو صادم ومدهش وغريب.
تبني المخرجة فيلمها القصير على تقنية السرد وتتقمص شخصية الراوية العليمة التي تتصفح ألبوم الصور العائلية لتنطلق من الذات إلى الموضوع.
وربما تكون "مدينة الشعراء" الخيالية هي مدينة موجودة حقًا، وتمّ بناؤها لعمّال المصافي وأساتذة الجامعة وموظفيها.
وقد تكون مدينة شبه طوباوية اجترحتها مخيلة المخرجة وكاتبة النص سارة رجائي التي تريد أن تحقق رؤيتها الإخراجية التي تراهن كثيرًا على الخطاب البصري ولا تهمل في الوقت ذاته اللعب على البنية السردية المحكمة التي تهزّ المتلقي في خاتمة المطاف وتضعه أمام نهاية تنويرية صادمة تظل عالقة في ذهنه إلى أمدٍ بعيد.
تنطلق شرارة الثيمة من "مدينة الشعراء" التي سُمّيت كل شوارعها بأسماء الشعراء الإيرانيين، لكن ما إن بدأت الحرب الشعواء حتى ظهرت أحياء جديدة لكي تستوعب اللاجئين الذين فرّوا من ضراوة الحرب ووحشيتها.
وحينما انتهت أسماء الشعراء المعروفين قامت بلدية المدينة باستدعاء الدارسين الأدبيين للبحث عن أسماء الشعراء المجهولين أو الذين سقطوا سهوًا من الذاكرة وحينما استنفدوا أسماء الشعراء أضافوا أسماء الكُتّاب إلى خريطة المدينة على اعتبار أنهم ينتمون إلى عالم الأدباء أيضًا، وحينما نفدت أسماء الكُتّاب لجؤوا إلى أسماء الأبطال الوطنيين، ثم تلاهم الملوك، والعلماء، والجبال، والأزهار، والأشجار حتى أصبح الشعراء أقليّة بعد أن كانوا غالبية.
وفي نهاية الحرب غيّرت البلدية أسماء الشوارع كلها وسمّتها بأسماء الشهداء الذين سقطوا في الحرب.
وما إن ينتهي المسار الموضوعي حتى يبدأ المسار الذاتي والأُسَري الذي تتبناه الراوية العليمة التي تشرع بالحديث عن منزل أمها الكائن في نهاية الزقاق الذي سُمّي شارعه باسم شاعر من القرن الثاني عشر مشهور بملاحمه الرومانسية، فبنت الأم مسبحًا أزرق في الحديقة الصغيرة وزرعت شجرة توت بيضاء لأنّها كانت تحب التوت الأبيض، واعتنت بالشجرة كثيرًا حتى أنها أثمرت توتًا أحمرَ بعد بضع سنوات واعتبروا التوت الأحمر فألاً جيدًا لكن أحد الجيران أخبرهم بأنّ شجرة التوت الأحمر مقدسة وأنها تؤوي الأشباح فارتعبت الأم وسقطت في الذهول حينما ظهر شبح امرأة في الشجرة؛ امرأة طويلة، هزيلة، ملفعة بالسواد وترتدي عمامة حمراء وكانت تقترب من أمها بخُطىً متواصلة، وحينما رقصت الأم توارت المرأة الشبح لكن الجار نفسه حذّرهم من قطع الشجرة لأنه سيحدث جُرحًا بليغًا في روحها ويترك لعنة أبدية على الساكنين.
كما أنّ هذا الجار يعرف الأسر، التي قطعت الأشجار المقدسة مثل التوت الأحمر، والسِدر، والتين.
ففي أحد البيوت التي قطعت شجرة مقدسة وظلت تنزف إلى أن مات الطفل الأصغر سنًا في العائلة، وفي بيت آخر ماتت امرأة جميلة، أمّا أم الراوية فقد ظلت ترقص بشكل مستمر لتحمي أفراد أسرتها من المرأة الشبح المتوارية في الشجرة المقدسة حتى جاء اليوم الذي حظروا فيه الرقص، ومنعوا النساء من الغناء، وفي إحدى الليالي تجمع أفراد العائلة في الحديقة، وأضرموا نارًا كبيرة في الهواء الطلق، وحرقوا أشرطة الموسيقى وكتبهم وصورهم كلها.
ينطوي هذا الفيلم على لحظتين تنويريتين لا يمكن أن ينساهما المتلقي بسهولة؛ الأولى حلول أسماء القتلى أو الشهداء محل أسماء الشعراء، الذين أصبحوا أقلية بعد أن كانوا غالبية، واللحظة الثانية هي متوالية الحظر والممنوعات التي تعاقبت الواحدة إثر الأخرى بدءًا بالرقص، مرورًا بالغناء، وانتهاءً بالموسيقى. وأكثر من ذلك فقد أوقد أفراد العائلة المحظورة من كل شيء نارًا كبيرة في الهواء الطلق وأحرقوا أشرطة الموسيقى والصور والكتب كلها وكأنما حرموا أنفسهم من معطيات الحياة برمتها وأدرجوا أسماءهم مع القتلى الذين أُجبروا على الموت وهم أحياءً يُرزقون.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن سارة رجائي هي مخرجة إيرانية- هولندية مقيمة في هولندا.
درست السينما في الأكاديمية الوطنية للفنون البصرية بأمستردام.
أنجزت 11 فيلمًا قصيرًا نذكر منها "يوم من فقدان الذاكرة" و"كان هناك حلم، وكانت هناك ذاكرة" و "سنة كبيسة أخرى" ومدينة الشعراء".