جلجــامش

ثقافة 2024/04/23
...

 طالب كاظم

لم نكن نرى أبعد من تلك الأسود الحجرية الجامدة، التي حرست البوابات البرونزية المغلقة منذ ألف عام. سيكون من اللا جدوى محاولة معرفة ما يحدث وراء تلك الأسوار العالية، باستثناء المرأة التي تعرف جميع الأسرار، كاهنة معبد اينانا، ولكن يحدث أحيانا أن تتسرب قصص القصر السرية، التي تحدثت عن ولادة صبي لا يشبه الآخرين، فالعلامات التي رافقت ولادته، أكدت نبوءات العرافة التي قالت بأن ذلك الصبي يجسد جبروت الالهة وعظمتها.
نذرت ننسونا، كاهنة المعبد الأبيض، عذريتها للإله انو، في تلك الليلة أعدت نفسها لتكون عروسا له.
 في قدس أقداس المعبد، حيث مخدع الاله انو، اضطجعت على سريره الفخم،  بينما انشغلت كاهنات الننتو بمسح جسدها بالزيت المقدس ونثر بتلات الياسمين على الغلالات الرقيقة، كانت المباخر الفضية ترسل دواماتها الكثيفة المعطرة في فضاءات المكان، توسدت ننسونا الفراش الوثير. أعدت الحسناء العذراء، لتكون الجسد البتول لبذرة الإله، كانت في عامها السادس عشر، تنتظر بعلها السماوي بشوق كبير استنفد صبرها، كانت الشمعدانات تضيء بنورها الشاحب جدران المخدع حين أغلق كهنة المعبد، بوابات الحرم المقدس، تنتظر الاله أن يخمد الأوار المؤلم  الذي أرهق جسدها، كانت تغرق شيئا فشيئا في نوم لذيذ، كالحلم تسلل اليها شبح الإله، تأملت الجسد الهائل الذي تراءى لها عبر الستائر الرقيقة، تطلعت في عينيه السوداوين المشرقتين، بوجل وتردد مررت أناملها على لحيته السوداء القصيرة الناعمة، التي أحاطت وجهه القمحي، وأطبقت بأصابعها على ذراعه الصلبة، ها هو معبودها يهب أحشاءها بذرته، ما أن لمست اصابعه نهدها الظامئ.
تحسست الكاهنة البتول براحة يدها جنين الاله وهو ينمو في أحشائها.    
منذ سنوات مضت لمّحت الأحاديث التي تداولها الناس، عن ولادة الصبي الذي تحدر من صلب الاله بين أحضان الملكة الكاهنة ننسونا. حينما كان صبيا صغيرا، احترف المبارزة وقيادة عربات الحرب الثقيلة، في العاشرة، عندما قذف الرمح الثقيل الذي انطلق خاطفا كالصاعقة، من فلق جذع شجرة التوت الضخم إلى نصفين، في طفولته تعلم الكتابة على ألواح الصلصال الطري وكيف يعد ككاتب محترف نهاية القصبة القصيرة للكتابة، على زمجرة صيحات قائد كتيبة فرسان أوروك، تدرب على فن الحرب، وفي اللاهوت تتلمذ على تراتيل كاهنة المعبد الأبيض وترانيمها المقدسة، ترعرع على تقاليد ملكية صارمة تمجد القسوة وتحجر العاطفة، لقد ترعرع بين خصمين لدودين، حتى تقاسماه فيما بينهما، الحب والكراهية .
جلجامش، الملك غير المتوج، الذي تحكم بيوميات القصر الملكي، حين أغدقت عليه الملكة ننسونا حبها، الم يكن مولودها الأوحد، جلجامش، الصغير الكبير، في عزلته يتطلع من شرفة غرفته العالية، إلى الصبية الذين يلهون بمطاردة بعضهم البعض في الميدان الكبير.
شهد الطقوس الجنائزية التي اقيمت لوالده، للملك لوكـــال بندا، الشعائر التي ستكرس صعود جلجامش، وريث العرش، لم يكن يدرك سر تلك الطقوس ولا التراتيل الحزينة التي ترنم بها كهنة المعبد، ولكنه لن ينسى تلك الوجوه الشاحبة، التي كانت تحدق بخوف في بوابة الدهليز المظلم.
 رقد الملك بزينته الملكية الفخمة، وبأرديته الأرجوانية الطويلة، وقد اضطجع على ظهره في الناووس المزخرف الثقيل، لن ينسى السحنة الشمعية الشاحبة التي كست تقاطيع وجه والده الميت، ويده التي أطبقت على المقبض الذهبي لصولجان اللازورد أو لحيته التي جدلت في خصلات رفيعة وقد زينت باللؤلؤ في حين انسدلت ضفيرة الشعر المجدول ثقيلة على كتفه وهي، تلمع ببريق زيت اللوز وعطر الزهر، هنالك ابتسامة غامضة ذابلة على شفتيه الشاحبتين، كان في نهاية عقده الثالث يتطلع إلى السماء بعينين مغلقتين، كان الصبي جلجامش  يحدق بألم في الملك الميت، بينما وضعت المرأة التي وقفت بقربه  يدها على منكبه العريض، كانت في بداية عقدها الثالث، بدت حزينة ولكنها كانت متماسكة.
في فجر اليوم السادس، أعدت كتيبة الفرسان لمرافقة الملك في رحلته الأخيرة، عبر طريق اللاعـودة، يحنطهم الصمت، يتحصنون تحت دروعهم الثقيلة بينما نشرت تروسهم الضخمة ظلالها على الملك، مثلما منحوتات حجرية تسمرن عشيقات الملك، الممشوقات، يتطلعن بخوف في الدهليز المعتم، حتى خيول العربات الملكية كانت صامتة، كانوا ينظرون بهلع في بوابة العالم الآخر المخيفة، بات مصيرهم واضحا، سيرافقون العاهل لوكال بندا في رحلته الأخيرة إلى مملكة الأموات، نصت وصيته: أن يتوج جلجامش ملكا على عرش أوروك، رغم صغر سنه إذ كان في الثالثة عشر، لم ينس كهنة معبد الإله انو، حتى  تلك الأشياء الصغيرة، التي لا تلفت الانتباه، هنالك جرار النبيذ والعسل، وممتلكات الملك الشخصية الأثيرة، قيثارات رأس الثور المقدس، وعربات الحرب، وراية الحرب والسلام والخنجر الذهبي المزين بالمجوهرات، والخوذة الذهبية، والأردية  الملكية .
واحدا تلو الأخر، عبر تلك البوابة المرعبة، اختفت كتيبة حرس الملك في عتمة الدهليز، وهم يحملون بصمت تابوت الملك على أكتافهم، ترافقهم النساء المفجوعات، بخطوات ثقيلة همدت على السلالم الحجرية التي انحدرت بهم إلى جوف الدهليز المعتم، هناك اعد الكهنة المثوى الأخير للوكال بندا وحاشيته التي رافقت الملك الميت في رحلته الأخيرة، أغلقت بوابة الدهليز بإحكام فيما كهنة المعبد يرتلون ترانيمهم، انهمك الرجال الآخرون في دفن البوابة المغلقة تحت التراب، خمد صوت نحيب النساء المفجوعات وعويلهن وتلاشت صيحات الخوف الواهنة تحت ركام  التراب الثقيل، ولم يعد هناك سوى الصمت والحزن.
في فجر اليوم الثامن، تسلم جلجامش شارات الحكم المقدسة، صولجان اللازورد والأساور الذهبية، في الطقوس التي أقيمت في قدس أقداس الإله انو العظيم، لم يكن هناك سوى كاهنة معبد عشتار وثلاثة كهنة، بذقونهم المسترسلة المجعدة، احدهم ترنم بتراتيل التمجيد بصوته الرجولي الرخيم، فيما الكاهن الآخر يمسح بأنامله المرتجفة، جبهة الملك بالزيت المقدس، بينما الكاهن الثالث يدور حولهم بخشوع كبير، وهو يمسك بسلسلة المبخرة الذهبية بدوامات دخانها الأبيض الكثيف، تسمر جلجامش كالتمثال، يتلقى بركات الإله انو العظيم، وهو يحدق في عيني كاهنة معبد عشتار في رداءها الحريري الذي انسدل على قوامها الرقيق، وهي تطوق معصمه بالأساور الذهبية، رمز الألوهية وناولته بيديها صولجان اللازورد، منذ يوم التتويج ذاك لم نعد نرى ذلك الصبي المتجهم في شرفته وهو يراقب ميدان أوروك الكبير.
جلجامش، الملك متحجر القلب، طالما أعدته الإلهة أورورا ليكون محاربــا للقتال في حروب لا نهاية لها، مفتول العضد، اعد لقذف حــراب المـوت التي تخترق تروس الأعداء، ضخم كالثور ادد، إله الصاعقة، بريق عينيه القاتمتين، تزرع الخوف في اعتى الملوك، حتى جثا الجبابرة والملوك يقبلون ظلاله المضطربة على بلاط قـــاعة العرش الصقيل.  
كان في الثالثة عشرة حين تسلم جلجامش مقاليد الحكم، إلا أن ملامح النضوج المبكر التي بدت على وجهه المتجهم وقامته الضخمة المديدة ستخدعك، مثلما خدعت الآخرين، اذ اعتقد رجال أوروك أن جلجامش كان في بداية عقده الثالث.
في أوروك ذات الأسوار الحصينة التي لا تقهر، مدينة المحاربين والحراب والتروس البرونزية، كان جلجامش ملكا قاسيا، أطبقت ظلاله على طرقاتها الصامتة، كان مغرما بالحروب، على صوت الطبول، تستيقظ مملكته، فزعة، متوجسة، تنتظر كوابيس يقظتها المريرة، حتى أن كاهن معبد انو الأعظم، وهو رائي الآلهة الحكيم، لم يعد يتكهن باشتهاءات العاهل.
يضطهد الناس ولا يبالي بالآلام التي يسببها لهم، يلقي بهم في محاجر الأعمال الشاقة المضنية لسنوات عديدة، لا أحد يستطيع عد الفتيان الذين قضوا نحبهم، في حـفر الترع التي امتدت في السهوب، وتعبيد الطرق تحت جحيم شموس تموز، كان يسخرهم لخدمته، كالعبيد، لقد انهك كاهلهم الخوف والألم، حتى لم يعد باستطاعتهم تحمل العذاب الذي يزحفون تحت وطأته.
 لم يعد من ملاذ أخير ينقذهم سوى التضرع إلى الآلهة، فهي وحدها التي تستطيع انقاذهم من جلجامش، فآلهة أوروك لن تتركهم يقاسون هذه الآلام إلى ما لانهاية.