أديب كمال الدين.. تأصيل الحروفيّة

ثقافة 2024/04/23
...

  ريسان الخزعلي

لو كانت هنالك محكمة للحروف
لاشتكيتُ حروفاً عشقتُها حدَّ الجنون
فلم تأبه بي أبدا.
ولا شتكيتُ حروفاُ هدّدتني وطاردتني
ليلَ نهار
حتى ألقت القبض عليَّ،
فقبّلتني وطعنتني سِرّاً وجهرا ً
ثُمَّ هجرتني ودرْوَشتني سرّاً وجهراً
إلى أن مُتُّ أو شارفتُ على الموت.*
ما تقدّم، قصيدة "محكمة الحروف" من الأعمال الكاملة – الجزء السابع، للشاعر أديب كمال الدين، والتي تُمثّل التأصيل (الحروفي) الذي وسم تجربتهُ الشعرية فنيّا، مبكّراً واستمراراً. حتى أصبحت العلاقة بالحروف علاقة "صوفيّة" لا تفارقهُ ولا يفارقها. فهو  يعشق الحروف حدّ الجنون وقد "دَرْوشته" سرّاً وجهاراً، وأصبحت أيضاً رماحا ً طاعنة كرماح الدروايش، قد تُميتهُ أو تُشارفهُ على الموت.  والشاعر لا يخفي هذه الدروشة  الحروفية/ الصوفيّة التي علّمتهُ كتاب الحرف/ كتاب الرماد، بل يكشف عن مصادرها: "ثلاثة مُعلّمين علّموني كتاب الحرف، أعني كتاب الرّماد. كان الأوّل أرضيّا/ لا يعرفُ شيئاً غير الجسد والذهب، والثاني سماويّاً يدعو إلى يس وطه/ وكهيعص، والثالث غامضاً كالقدَر لا يفعلُ أيَّ شيء سوى أن يصفعني كلّما/ أخطأت. دمّرني المُعلّم ُ الأوّل إذ هيّأَ لي الجسد على السرير. فمن أين َ لي  ببرهان ِ يوسف لأسحق صيحاتِ الإغراء والإغواء؟ وأتعبني الثاني إذ اختارَ/ لي رحلة َ المشي على الجمر ليل َ نهار، وما أنصفني الثالث إذ أعطاني/ ثلاث َ كؤوس وصاح بي: اختر ْ كأسك؟ أعطاني كأس الماء فتجاوزتُها وكأس/ الخمر فرفضتُها، وكأسَ النار فشربتها لأتحوّل في الحال إلى كتاب رماد" .
أليست هذه رؤية صوفيّة خاصّة  للوجود؟ إنها رؤية التحوّل إلى رماد، رؤية التلاشي والعودة إلى عنصر التكوين الأوّل. وما أكثر نماساته مع القول الصوفي (أوقفني)!.
إن موضوع "الحروفيّة" في شعر وتجربة أديب كمال الدين لابدَّ أن يكون مرتبطاً بمعرفة سرّية الحرف في القرآن الكريم، وطلسْميتهُ في الرقى والتعاويذ والتوّقيعات. ولابدَّ أيضاً من جذر عميق، ديني/ تاريخي/ عائلي،  يُغذّي شجرة هذه الحروفيّة ويُديم استطالتها، وإلّا كيف يمكن تفسير هذه السعة في تشكيل وتأويل الحرف وجعلهُ دالاً على أكثر من مدلول؟ وإنَّ الجذر الذي أشرت إليه يتضح في قوله النثري/ الشعري -  قصيدة "حتّى قيل": "من رحمِ الحُلم ولِدت/ حتى قيل إنّني منذ الولادة/ كنت حرفاً يُراقص نقطته/ أو نقطة ً تعشق سِرّها/ أو حاء سقطت من كلمة الحُب/ أو باء غرقت في شهوة الحُلم".
ضم َّالجزء السابع من الأعمال الشعرية الكاملة خمس مجاميع لم تُنشر سابقا، وفي عنوان كل مجموعة ما هو مرتبط بالحرف كمُوجِّه استباقي يعزز تأصيل الحروفيّة ويجعلها شاغلاً في التلقّي: لم يبق من "أحبك" سوى نقطة الباء، صرت شاعراً لأن حرفي لا يعرف أن يمشي إلّا على الجمر، الرقص مع الحروف، ما لم يقلْهُ الحرف، طفولة حرف.
ورغم تنوّع وسعة مواضيع القصائد، فقلّما تجد قصيدة تخلو من ذكْرِ مفردة الحرف أو الحروف حتى في القصائد التي تتشاغل مع تجربة "الأشخاص"، المطربة "أُم كلثوم" كمثال:
"نعم/ تحت شمس صوتك ِ الوارفة، يا كوكب الشرق/ يتدرّبُ الحرفُ على الطيران عندَ كل قصيدة: مرّةً بلبلاً، مرّةً حمامة شوق، وثالثة طائرا/ لا اسم له، ورابعة يتحوّل الحرف إلى جناح/ عظيم يملأُ الشرق والغرب..".
إنَّ الشاعر مسكونٌ بالحرفِ وساكن فيه، وما هذا التشابك الحروفي إلّا تأصيل لتجربة فنيّة/ شعرية قد لا يقوى الشاعر أن ينفكَّ منها بعد أن أصبحت "النمط" في تجربته: "نعم، كان َ محظوظا بما يكفي/ ليخط َّ لنفْسه أبجديّة/ تتألف من سبعة آلاف حرف/ ونقطة واحدة".
قصائد الأعمال الشعرية  الكاملة – الجزء السابع، كما في معظم قصائد الأجزاء السابقة، قصائد وضوح طيّعة على التلقّي تعتمد البناء النثري "قصائد نثر" والجملة القصيرة، لا جملة قصيدة النثر الطويلة المسترسلة، كما جاءت بها قصيدة النثر من "هناك": "حاولي/ فقصائدي عذبة ٌ كماء النبع/ بسيطة كأغنية ريفيّة/ وطيّبة ٌكرغيف يحلم ُ به طفل جائع/ افترش رصيف الله..". الشاعر المبدع أديب كمال استغرقتهُ قصيدة النثر كثيرا ً– وهو العارف بالعروض، وقصيدة الشعر بشكليّها  - بعد مغادرته العراق، والتعليل: إن مراودة، وتشكيل الحروفية بفيض شعري ودلالة واسعة، قد لا يستجيب لها التوتّر الإيقاعي  بالقدر الذي توفّره  سيولة النثر، وقد فعل : "أجمل ُ قصائد الحرف/ تلك َ التي لا تعرف ُ سبب كتابتها/ ولا سبب َ فرحك َ بها/ ولا تعرف بماذا تنتهي".
إن قراءة هذه الأعمال تستوجب الكثير من الإنصات، ولا يسعها مثل هذا المرور الذي يكتفي بالاحتفاء.