بوفوار والموتُ العَذبُ جدَّاً

ثقافة 2024/04/23
...

  عدنان الفضلي

على الرغم من كثيرٍ من السوء الذي رافق سيرة الكاتبة الثوريَّة (سيمون دو بوفوار) في ما يتعلّق بالجنس والجسد ومشاعاته، إلّا أن فرنسا تعدها أمّاً للحركات الثوريَّة النسويَّة، نظراً لكونها وفي كثير من كتبها دافعت عن حقوق المرأة، وعاشت ضمن هذا النمط الثوري الإنساني.
في روايتها (موتٌ عذبٌ جدَّاً) الصادرة عن دار المدى عام 2020، والتي جاءت بـ (96) صفحة من القطع الصغير، والتي ترجمها الكاتب والمترجم (كامل عويد العامري) عن الفرنسية، تحكي بوفوار الأيام الصعبة والمؤلمة التي عاشتها مع والدتها في المستشفى بعد تعرض الأخيرة لكسر في الحوض نتيجة سقوطها في الحمّام، ومن ثمّ اكتشاف الأطباء لوجود ورم سرطاني في معدتها، الأمر الذي لم يمهلها الوقت الطويل، لتموت بعد معاناة مع المرض. لا يمكن أن نصف ما كتبته (بوفوار) في هذا الكتاب بالرواية المكتملة، لأسباب عدّة أبرزها:  
تخلي الكاتبة عن أسلحة الروي المهمة ومنها تكنيك السرد والتقنيات المعقّدة التي طالما رافقت الروايات عميقة المحتوى، فالسرد في هذا الكتاب يعدّ سرداً عادياً يمكن تسميته (انثيال بصيغة شهادة) أرادت من خلاله صاحبة النصّ توثيق ما يحدث في المستشفيات وكيفية تعامل ذوي المريض مع اللحظات، وكذلك كيف يتعامل الأطباء والممرضون مع مرضاهم من أصحاب العلل الصعبة المملة.
ففي الرواية تستحضر الكاتبة عمليات القتل الرحيم والإرهاق العلاجي المصاحب للألم، للمرضى الذين فقدوا أي أمل في العلاج. كما أنها تؤرشف للممرضين والممرضات من خلال إلقاء الضوء الكاشف على حياة الممرضات الخفية وطرق اهتمامهن بالمرضى وما يسببه لهنّ ذلك من شعور بالاشمئزار، رغم أنهنّ يحرصن على إظهار مشاعر الود والصداقة.
في مقدمة أو تقديم لهذه السيرة (الرواية) تقول بوفوار "لا تذهب بهدوء، في تلك الليلة الطيبة، يجب أن تحترق الشيخوخة وتهوي في نهاية اليوم، الغضب، الغضب ضد موت الضوء....".  
سيمون دو بوفوار كانت من العاتبين على غير المهتمين بمرض أقربائها، وممن لا يتواصلون دائماً مع ذويهم، لكنها وبعد مرورها بهذه التجربة ورقودها مع والدتها في المستشفى تخلت عن مبادئها الأخلاقية كما تقول وهزمتها المبادئ الاجتماعية فتحوّلت مشاعرها نحو لوم نفسها قبل لوم كثير من الأقرباء الذين وجدتهم مقصرين مع مرضاهم الذين يتعذبون بانتظار موت موجع وليس رحيماً. تقول دو بوفوار في إحدى صفحات السيرة "كنت أفكر في أولئك الذين لا يستطيعون مخاطبة أي شخص تحت رحمة الأطباء غير المكترثين والممرضات  المرهقات". الرواية لا تخلو من استدعاء الماضي فالكاتبة ومنذ انطلاق الروي أو سرد الأحداث تطلق وبصوت عال سرداً لكثير من الأحداث التي سبقت مرض ورحيل والدتها، فتكشف لنا عن أوجاعٍ مختبئة من تركها للأم الوحدانية المريضة، والانشغال بدوامات الحياة والسفر المتكرر لتواجه في النهاية عتاب تلك الأم وهي على سرير المرض والموت.  وتقول في هذا الصدد:
 "لا يزال الكثير من اللوم الذي يواجهنا لأننا في السنوات الأخيرة كنا مذنبين بشكلٍ خاص بالإهمال والإحجام أزاء أمي.
وبدا لنا أننا تخلصنا من ذلك بالأيام التي كرسناها لها، وبالسلام الذي
وهبه حضورنا لها".  تكشف الكاتبة في مكان آخر من الرواية عن صعود جديد في العلاقة بين بوفوار ووالدتها خلال رقودها في المستشفى حيث تتصاعد العلاقة بينهما الى درجة أن بوفوار صارت تعيش كامل يومها في المستشفى وتنام بالقرب من والدتها، بل وصارت ترى أن هذا المكان صار عالماً بحد ذاته حيث تقول "لقد اختزل العالم في غرفة أمي، وإلى جنبها كانت تتجلى حياتي الحقيقية أما في المدينة فلم أعد أرى سوى مشهد ينتقل فيه الناس".
وفي خضم هذا التصاعد يأخذ الحوار بين بوفوار ووالدتها أكثر من بعد إنسانيّ، حيث يخفت العتب وتتحقق حوارات لذيذة من ضمنها ما تورده الكاتبة بالقول "بينما كنا نتكلم في الظلام كنت أخفف من ندمٍ قديم فاستأنفت الحوار الذي تعطل في أثناء مراهقتي، فخلافاتنا وتشابهنا لم يسمحا لنا أبداً بالتجديد.
والحنان القديم الذي كنت اعتقد أنه انطفأ وها قد انبعث ثانية".
الكتاب – السيرة – الرواية يكشف لنا عن مواطن إنسانية كثيرة لم نتعرف عليها في ما تلقيناه عن حياة هذه الكاتبة الفذّة والمناضلة الثورية التي خلدها الفرنسيون والعالم المتحرر.