عوالم روائيَّة تحت هاجس الموت

ثقافة 2024/04/23
...

   وجدان عبدالعزيز

دائماً القراءة تجرنا الى متعة الاكتشاف غير المتوقع، وبما ان النص الروائي عالم كبير من الصراعات التي تؤدي الى فضاء ذهني من أمكنة وشخصيات، ومن خلال رصد حركة الشخصيات في فضاء هذه الأمكنة وتداخلها الزمني، قد نصل الى اكتشاف الهدف أو المقصد، وعندها يحدث التجاوب بين التلقي والنص الروائي، وقد نصل الى نتيجة أفق
الانتظار...
فالتلقي يتوقع شيئاً ما، ولكن العمل الأدبي يقدم شيئاً آخر غير متوقع، وهذا افتراض لفهم هذا المصطلح الأدبي بمعنى استحضار خبرة القارئ الأدبيَّة، التي تمكّنه من بناء افتراض سابق ينتظر تحققه في العمل الأدبي الذي سيتلقاه أثناء القراءة، وهو محمل بمرجعيات تاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة يعيشها في حياته اليوميّة، فيحمل المتلقي توقعاً يجعله في حالة انفعال وإقبال على العمل الأدبي، مما يجعل هذا التوقع ينتهي إلى مصير لا يتحدد، إلا بتفاعل القارئ والنص وبداية عملية القراءة، هذه أفكار تزاحمت أثناء قراءة رواية (ووترفون) للروائي نعيم آل مسافر/ منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/2023م المتكونة من خمسة فصول: الأول بعنوان الهاجس الذي تداخلت فيه ألوان الحياة بمشاهد واقعيّة غلبت عليها مشاهد بألوان أخرى، حيث بقي الراوي يقطع بها، ليقدم لنا لوحة تزاحمت فيها المشاهد، الواحد يحاول التغلب على الآخر، والظاهر ان الراوي يعيش حياة قلقة ما بين أماكن عاثت بها الحروب خراباً، وبين أماكن تحمل عبق التاريخ آثاره، رغم انه يعيش في بيت وزوجة وأشياء مألوفة ومعتادة، إلا ان هناك الموسيقى (ووترفون) وأفلام الرعب، حيث جاءت من مكان بعيد وغريب عن أجواء البيت والزوجة، ويبدو أنها مألوفة لدى البطل.. (قالت زوجتي مستغربة العبارة التي هتفت بها! فعبرتُ لها خجلاً.
عن أني تذكرت فيلماً كنت قد شاهدته البارحة، وقد تداعى الآن  في ذهني تحليله وصدرت هذه الكلمات من دون إرادة مني، فانصرفتْ غير مقتنعة)..
والحقيقة ان الكاتب آل المسافر عمد في كتابة روايته هذه الى تقنية تيار الوعي، ولا شك ان هذا هو تبعة من تبعات تأثير مدرسة التحليل السيكولوجي الفرويدية، ويشير أي تيار الوعي إلى تدفق الأفكار في وعي العقل.
يمكن أن تشكل المجموعة الكاملة من الأفكار التي يمكن للفرد أن يكون واعياً بها محتوى هذا التيار، وهنا يبدأ الراوي بعد أن تتركه زوجته غير المقتنعة بالتحدث عن فيلم الرعب قائلا: (تمنيت ان يقدم المخرج إشارة تقنعني..)، وهكذا يستمر الكاتب ومن خلال الراوي لمعالجة أحداث الرواية مستعملاً تيار الوعي، ويترك لنا الراوي توقيعه في هذا الفصل من الرواية تجعلنا ننشد الى نهاية الرواية كاملة، متمثلة بقوله: (ـ آه.. لو تعلمين بأن هذا آخر يوم في حياتي)، وهذا الفصل ترك لنا أمورا تجعلنا نتساءل عن الكثير، فهو مزج بين مشاهد واقعيّة، وأخرى ذهنيّة، وقد تكون عاشها الكاتب (الراوي) في وقت سابق، وكان كلا النوعين حملا صراعاً يثير فينا أسئلة ما.. لا سيما الراوي يحمل داخله هاجس الموت، بحيث حتى مسودة رواية صديقه غازي تحمل اسم (موت على الورق)، ويبقى هاجس الموت يرافق الراوي مع فصول رواية (ووترفون)؟، وتبقى أمكنة الفصل الثاني والأجواء التي يعيشها الراوي تدور في المألوف والغير مألوف، وحين يخرج للعمل صباحا، يتفاجأ بنفوق أسماكه، فيتساءل عن سبب موتها، رغم انه يعلم كيف ماتت، ثم
يتساءل:
(لماذا استقبل موتي بكل هذا الهدوء والاسترخاء؟ فان كان هذا استسلاماً، فهو على الأقل يحتاج مني بعض الأسى.
وهل لهذا ارتباط بعدم شعوري بالخوف من أفلام الرعب؟) ص18.
وهكذا يعيش أجواء الموت بنقلات ذهنية استرجاعية، ولكن بربط غريب بين نفوق الأسماك وموته هو! وقبل ركوبه سيارته متجهاً لدائرته، وهذا مكان مألوف، يترآى له من خلال زجاجة السيارة انه يزور متحف الشمع في ولاية تكساس، لا أدري كيف رافقته طفلة ولماذا؟، وهنا تعود ذهنيته الى أفلام الرعب ومصاصي دماء ومستأذبين ومخلوقات رعب أخرى، وبعد هذا المشوار الذهني الاسترجاعي يقرر عدم الذهاب الى الشركة، أي مقر عمله وتبعات عدم الذهاب يعرفها، وهي أجوره..!
ويبقى هاجس الموت يرافقه، وهو يمر بنهر دجلة ويدلنا على معالم الطريق المألوف متحدثاً عن زمن النظام السابق والحالي مثال مكان الهورة، التي كانت مقراً لدائرة الأمن وتدور حولها حكايات الرعب، وكل هذه المشاهد المألوفة وغير المألوفة تذكره بقرب موته
لماذا؟
(فكرت ان ادخل المركز الصحي وأجري بعض الفحوصات لأتأكد من أني سأموت اليوم أم لا، لكن ماذا أقول للطبيب؟، ألمٌ في قلبي وكتفي وعضدي الأيسر، وصوت موسيقى ووترفون يطن في أذني وفي ذهني عبارة موت على الورق؟، ربما سيسخر مني، أو يجري لي بعض الفحوصات، وقد تستغرق وقتا..)، وتبقى تساؤلات تتزاحم في ذهنه وهو ينتظر الموت، ترافق هذه التساؤلات الكثير من أمكنة حقيقيّة وأخرى غير حقيقيّة من صناعة ذهنيّة، أو من فلام
الرعب.. وبدا الراوي مثقلا بالأفكار المتزاحمة، وكأنّي بها يريد ان يرويها دفعة واحدة، فالأمكنة مثلا تغيّرت عما كانت عليه قبل سقوط النظام السابق، والحقيقة الراوي يتعايش مع الأحداث وهذه الأمكنة، منها مرفوضة لديه عرفاً، ومنها ترفضه أخلاقه وتعامله الحياتي معها، مثال وقت تأخره عن العمل و.. و..فـ (ان قوة الفن لا تكمن في ما يقوله وحسب، بل في ما لا يقوله أيضاً، أي ما يرمز إليه ويوحي به، وهذا بعض سر خلود الأعمال الفنية الأصيلة وحيوتها المتجددة..)، هذا قول الدكتور محمد شفيق شيا، ويبقى الراوي في الفصل الثالث من الرواية وأثناء توجهه الى سدة الكوت يرسم لنا الطريق بأحداث التاريخ من العثمانيين الى الانكليز ثم العهد الملكي، (وقهقهة الطيارين والجنرالات تختلط بأصوات الجنود وهم يقطعون الحمار على صوت الووترفون والرجال المحليين يراقبون وصاحب العصا الغليظة يعاتب السماء...).
 "الرواية"، وكما قلنا يبقى يتساءل الراوي: (هل ما أمرّ به اليوم هو موت نفسي أم ماذا؟)، أما الفصل الرابع يتحدث عن الموت على الورق، وهي رواية صديقه غازي، وهنا راوي رواية (ووترفون) يتعايش مع أحداث رواية
(موت على الورق) بنفس طريقة معايشته مع فصول رواية (ووترفون)، وتختلط الهموم الذاتية، فكلا الروايتين تعرضا ابطالها لأنظمة سياسية غير وطنية، كما نفهم روح الوطنية الحقة، وتعرضا لحروب كارثية النتائج على نفسية الانسان، وصولا الى نظام الدكتاتورية التعسفي، ثم الاحتلال الأميركي، من هذا كله نستنتج محاصرة الموت لبطل الروايتين، وحضور أمريكا، فأمريكا لا تمثل للذاكرة الإنسانية إلا الحروب والعداوات المستمرة عبر تاريخ البشريَّة، تروي رواية (ووترفون): (باع حصانه في الثامن من آب، فقد انتهت الحرب على الورق كما بدأت عليه)، إذن آثار الحرب بدأت على تركيبة الشخص وجعلت المتلقي لأحداثها يعيش مر الحياة منذ الصفحة 1 الى الصفحة 72 أي بما فيه الفصل الخامس والأخير.. (فقد لا أعود على العشاء هذا اليوم ان عاجلني الموت قبل ذلك)، ولا ننسى أن ننوّه أن الكاتب نعيم آل مسافر سخر كثيراً من مفارقات الزمن الكثيرة، الذي جعلته يغيب فترات
وهو حاضر..