قاسم حداد.. مذبح النيران والموتى

ثقافة 2024/04/24
...

 عبد علي حسن


(المذبح... عائش في مذبح النيران والموتى يموتون،

انتهى حلم

ووعلُ البحر يغوي خمرة الحانات و الأقداح مترعة دماً

و طرائدي في الوحل.

في حلٍ أنا من زيزفون الوعد والغزلان

في حل من الألوان.

في حل من الصور المعارة للضفادع

قلت في حل أنا من نجمة في عسكر الأعداء

في حل من الأسماء

في حل من اللغة الكسيحة والهوى

من زعفران المحو من جبانة تمشي

وفي حل من الحرب التي غدرت بأسلحة المقاتل

من جدائل طفلة موؤدة

من أمةٍ لا تقرأ التاريخ

في حل أنا من ميتين يواصلون الموت

في حل . سأمسك دفتي بيدين من نارٍ وماء

أحتمي في مذبحي و أصير أغنية للنفورِ).

* يصطفُّ الشاعر البحريني قاسم حداد إلى جانب شعراء الخط الأول من شعراء جيل الستينيات العرب، ليسهم في تشكّل الخطاب التحديثي للشعر العربي في حلقته الثانية، هذا الجيل الإشكالي الذي ولد في رحم المتغيرات العاصفة في بنية المجتمع على المستوى العالمي والعربي. فقد أسهمت حركة اضراب الطلبة في فرنسا وأمريكا 1968 التي نقلت مجتمعات جغرافية الحداثة الغربية إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي كشف عنها الخطاب الذي كتبه سارتر وقرأه ميشيل فوكو في جمع المتظاهرين من الطلبة والعمال عام 1968، وكذلك الهزيمة التي تعرض لها العرب في حرب 1967 مع الكيان الصهيوني التي كشفت عن هزال الأنظمة العربية في تصديها للغرب والكيان الصهيوني، وعلى المستوى المحلي فقد اتسم الخطاب السلطوي للأنظمة العربية بقمع للحريات السياسية في  للمجتمعات العربية، كل ذلك أسهم في تخليق جيل شعري امتلك الوعي لتجاوز خطوات التحديث الأولى التي بدأها جيل رواد قصيدة التفعيلة، خاصة في التفاعل مع قضايا الشعوب في نضالها ضد أنظمة القمع والقهر السياسي والاجتماعي. 

فما كان من شعراء هذا الجيل إلّا تبني تلك القضايا من منظور يساري وضع الإنسان محوراً له في تجاربه الشعرية التي تخطّت النمط الريادي بٱفاق تجريبية تمخضّت عنها تجارب شعرية مؤثرة ومؤسسة لجملة من متغيرات كرّست من جهة تطلعات النمط الريادي ومن جهة أخرى انطلقت صوب الإضافة النوعية لما حققه شعراء جيل رواد قصيدة التفعيلة العربية. ومن شعراء هذا الجيل الذي اتصف بالتمرد والإجتهاد في صياغة تجربته المتفردة والتي تصب في مجرى الخطاب التجريبي الجمعي لجيل الستينيات هو الشاعر البحريني قاسم حداد الذي  تعرض  للاعتقال والزج في السجن لأكثر من مرة، ولم يزده ذلك إلّا إيماناً بصواب وسلامة مواقفه التي دمجت الهمّ الذاتي بالموضوعي، وقد تبين ذلك منذ ديوانه الشعري الأول "البشارة"1970، وفي ماتلاه من كتب شعرية أكّدت نزوعه الإنساني الذي امتدّ على مساحة كبيرة في منجزه الشعري الذي مثّل دريئةً يحتمي بها من قبح العالم، ففي لقاء معه أجرته ليندا نصار لموقع ضفة ثالثة عام 2022 أشار إلى أن (الكتابة تظلّ قلعتي وحصني ضد العالم كله) ومن هنا تتكشف لنا عمق تجربته الشعرية التي جعلته واحدا من رواد القصيدة الحديثة العربية. 

 وفي نص "المذبح" الذي اخترناه عيّنة للدخول إلى تجربته الشعرية تتكشّفُ لنا قدرته على تخطي مشهديّة الواقع السطحي المكشوف والمستهلك إلىٰ تبنّي غائية الانكسار وعوامل تعرية الواقع الذي يشي بموضوعات القهر الإنساني التي تقف عاجزة أمام تقهقر فواعل الإحباط والنكوص، وبالتالي انهيار المنظومة القيمية والإنسانية التي وجدت في عنوان النص "المذبح" تعبيراً أمثل لها. فالمذبح لم يكن سوى فضاءً متّسعاً أكثر شموليةً من مكان تجري فيه عملية الذبح، إذ أن النزوع التعبيري لمعاناة الذات قد ارتبط بأكثر من مفازة شكّلت حلقات متصلة بعضها ببعض لترسم مشهداً كلياً مرعباً لم يجد له مكاناً غير المذبح. 

فقد توزّعت النص بُنى عديدة اجتهد الشاعر في تخليق عناصرها المرتبطة بالواقع وناتجةً عنه، فالنص يفتتح مشهداً يكادُ يُرى عبر حركية الذات وهي مستوطنة مذبحٍ تتعالق فيه المكونات التالية/ الذات + النيران + الموتى الذين يموتون. وهذه مكونات لحلمٍ ينتهي عند رسم هذا المشهد/ اللوحة التي تبدو ساكنة ومتوقفة عند حدود الإفصاح عن مكونات المذبح الذي سيكون البوابة المستثيرة لمواقف لاحقة لا تخرج عن الدلالات المعلنة وغير المعلنة لبنية المذبح بعده مكاناً لإقصاء وجودي يمتدّ ليشمل كل المكونات. وبذا فقد تشكّل الفضاء الإقصائي الذي سيسمُ ويؤثث لوضعٍ يضمرهُ الواقع وثاوٍ تحت البنية السطحية لحركية النص الذي سيؤسّسُ لتوالي الهزائم والانكسارات والإقصاء الذي يبدأ من الذات وينتهي إليها بفعل ما يجري في الواقع من انتهاكات قد اتخذت من إعادة تشكّله وإنتاجه بُنى عميقة لم تتوقف عند حدود الوصف الظاهري لمظاهر التقهقر، وإنما تجاوزت ذلك إلى تفعيل علائق الذات مع ما يحيط بها، أو يسهم في تشكل ماهيتها الإنسانية. 

ولعل من بوابة المذبح يتدفق الإحساس بنهايات تلك العلائق وعدم القدرة على إعادة تفاعل الذات معها عبر التوكيد على التخلي عن المفردات الحياتية التي كانت من فواعل الوجود الإنساني، فالنص يعلن عن هذا التخلي من خلال تكرار "في حلّ أنا" الدّالة على انقطاع الصلة بـ: زيزفون الوعد والغزلان/ الألوان الصور المعادلة للضفادع/ نجمة في معسكر الأعداء/ اللغة الكسيحة/ الحرب التي غدرت بأسلحة المقاتل/ جدائل طفلة موؤدة/ أمة لا تقرأ التأريخ/ ميتين يواصلون الموت، فكل المسميات السالفة قد كوّنت عناصراً لبُنى أسهمت في إحباط الذات وإيقاف فواعل التعالق معها بسبب من التقهقر وعدم القدرة لمواجهة المذابح التي تحصل كل حين، فالأمة تتمترس خلف أقنعة التخلف والخيانات المتوالية وسكونية التعامل مع تأريخها وعدم امتلاكها قدرة إعادة  قراءة ذلك التأريخ وتنقيته و بما يضمن امتلاكها هويتها الفاعلة، وازاء هذا المشهد الدامي لم تجد الذات مخرجا سوى أن تعلن: (سأمسك دفتي بيدين من نار وماء/ احتمي في مذبحي/ وأصير أغنيةً للنفور).

 لينغلق النص على بنية التمرّد والنفور نتيجةً لخسارات الذات لكل ما يعينها على تجاوز عوامل الاحباط والتقهقر، وهنا يتناصّ هذا المقطع الأخير من النص مع الموقف الصوفي لرابعة العدوية التي شوهدت في أزقة بغداد وحواريها وهي تحمل النار بيد وبالأخرى الماء لتطفئ جهنم وتحرق الجنة كيما يعبد الناس الله عبادة خالصة من أي غرض، وبذات الهدف فإن الذات الشاعرة ستحتمي بالمذبح فضاءً متّسعاً لتتصاعد اغنية النفور من كل شيء وهو ما كوّن موقفاً ينتظر التحوّل بتحوّل بنى عوامل التقهقر. وموقف التمرد والنفور هذا هو كلّ ماتبقى للذبيح المحتمي 

بمذبحه وهو ما شكّل رؤيا النص للعالم.