كاظم لفتة جبر
كما هو معروف أن لكل عصر فلسفة خاصة به، تتميز عن غيرها من فلسفات العصور الأخرى، فالفلسفة الشرقية روحية، والفلسفة اليونانية عقلية، وفلسفات العصور الوسطى دينية، والفلسفة الحديثة تنويرية نقدية، أما الفلسفة المعاصرة فقد طغى عليها الأدب والمنفعة والمفاهيم، ولكن مع تطور الفكر الحالي ماذا يمكن أن تتسم به الفلسفة؟
في العصر الحالي تجدد الفلسفة من هنا وهناك، أي تظهر في مكان معين وتختفي في آخر، فمع استغلال العلوم عن أصولها النظرية، وجدت الفلسفة نفسها أمام منهج تفكيكي لتواصلها مع العلوم، فتجدها تجزأ المعرفة بين علم وآخر، على غير ما كان معروف أن لكل فيلسوف نظرة شاملة لكل شيء، بل أصبح العكس لكل شيء فلسفة، ويبدو أنَّ ظروف العصر تحكم على الفلسفة منهجها في معالجة الموضوعات.
فالفلسفة مهمتها النقد والتساؤل عن كل ما هو مجهول وجديد في العصر قد تكون أدواتها ووسائلها ثابته وتنبع من تاريخ الفلسفة، لكن المعالجات يجب أن تكون عصرية، فهي ليست موضة، لكن لكل زمان إجابة خاصة للأسئلة الوجودية التي تطرحها، والسبب هو تغير أسباب السيطرة على عقل الإنسان سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية، أيديولوجية.
فليست هناك فلسفات شاملة بقدر ما أنها جزئية تحكمها الظروف في الظهور والإعلان عن نفسها، قد تكون عقلية نقدية، أو أيديولوجية لمصالح سياسية، أو قد تكون فهماً ذاتياً يخرج عن طريق الأدب والفنون. فما كان عقلي نقدي يسعى إلى المعالجة وإعادة فهم الذات الإنسانية في ظل تطورها. وما كانت أيديولوجية يكون مسعاها الاستحواذ على قدرات الذات الإنسانية، وتلك هي الفلسفات المزيفة، وما كان ذاتي يهرب من الواقع من أجل الاطمئنان والراحة من صخب الحياة.
الفلسفة اليوم لم تعد كما كانت مدارس ومذاهب وأكاديميات، وبروج عاجية، بل أصبحت قريبة من عامة الجمهور، والسبب يعود إلى مرونة الحصول على المعرفة من خلال ضغطة زر على جهاز لوحي مرتبط بمحركات البحث العالمية.
البعض يرى أن وقت التفلسف انتهى بوجود الآلة التي تفكر عنا بمجرد سؤالها، لكن مهمة الفلسفة وطبيعتها لا تنتهي بمجرد الحصول على أدوات توفير المعرفة، فهي ليست كأدوات المنزل التي تسهل علينا الحصول على وجبة شهية، إذ أن الفلسفة هي السؤال ذاته والتفكير ذاته، أو هي النقد ذاته، والفحص والتفكيك ذاته، فكيف للإنسان أن يتحرك خطوة واحدة من غير فكر، فالفلسفة جزء لا يتجزأ من كل عصر، ولكل عصر فلسفته التي تستجيب لمتطلبات التقدم سواء كانت تلك المتطلبات حاجات أو رغبات.
ففعل التفلسف قائم على السؤال متى ما انتهى التساؤل عند الإنسان انتهت الفلسفة وبلغنا الحقيقة، والسؤال الفلسفي في ماهيته وجودي عن الله والعالم والإنسان، في البدء كان البحث عن علة الوجود الأولى وتميز كل فيلسوف سواء كانت مادية أو عقلية، ثم البحث عن أصل العالم وهي ما تميزت به الفلسفات الحديثة.
أما البحث عن وجود الإنسان فكان مهمة الفلسفة المعاصرة، فهل البحث الفلسفي عن الإنسان وارتباطه بالآخر والأشياء عبر السلوك والعواطف، يعكس حقيقتنا أو مجرد افتراضية؟ وهل يؤثر ذلك على الإنسان في فهم ذاته؟ فالعالم الحقيقي عالم تحكمه السلطة مهما كان نوعها، لكن لا حاكم على العالم الافتراضي سوى الإنسان نفسه. وبعد لجأت بعض الدول على تكييف ذلك العالم الافتراضي وفق قوانينها، هل يعني ذلك أننا أصبحنا حياتنا افتراضية؟ يبدو ذلك إذ أصبح كل شيء افتراضياً دون أن نعي ذواتنا، فتحركنا "الترندات" لا المشاعر، وتستسيغ عقولنا الصور والأشكال دون الذوات، إذ أصبح كل شيء شكلي حتى في مراكز الوعي والمعرفة في الجامعات. فالفلسفة اليوم مهمتها البحث في الإنسان عن الإنسان، والبحث في العالم عن العالم، لذلك الفلسفة لا يمكن أن تكون افتراضية مهما كان للذكاء الاصطناعي من نصيب في عالمنا ومستقبلنا.