القارئ.. كائنٌ لغويّ

ثقافة 2024/04/24
...

 عثمان بلخيري


“القارئ آخر من أفكر فيه، أفكر في ما أكتب وكيف أتقن ما أكتب وكيف أتحقق منه..." واسيني الأعرج.

من الجميل أنْ نجدَ لكتّابنا بتنوّع اهتمامهم الإبداعي، مقالات أسبوعية أو يومية بالصّحف وبالمواقع الأكثر شهرة، فلا تكون متابعتهم مقتصرة على الكتاب، فقد يستغرق نشرُ متنٍ سنة أو بعض سنين. وفي ذلك بعض الخطر على ذاكرتنا - وعلى العين وعلى السّمع- أنْ ينال منها النّسيان، وفي هذا أيضا خطر على ثقافة الأمّة والوطن والمجتمع. فكتّابنا اليوم لا يشبهون الأقدمين من الكتّاب، القديم قد ثبّتته أدوات التّحقيق والجنون بالتّراث والبرامج التّعليمية، وليسَ فقط "إبداعهم ".

فالإبداع في اللّغة العربية هو أعدل قسمة بين كتّابها، إنْ كانوا من المدوّنة الكلاسيكية، أو من المعاصرين. ومن أجل هذا الظّهور اليومي والأسبوعي على القارئ العربي العادي، أنْ يشارك في "كرنفال الظّهور" ويتابع يوميات الكتّاب ليتبيّن لبعض مبدعينا أنّه  كائن له هوية وجودية. وقد يستطيع المبدع عدم الانتباه له، وهو نوع من الإلغاء قد يوجع 

القارئ.                                                                        

هذا تقديم بسيط لعبارة انتشرت لأحد الرّوائيين العرب من المشاهير، ومن الحاصلين على جائزة كبيرة من بلدٍ عربيّ له في علاقاته الخارجية ما يميّزه. والعبارة "القارئ آخر من أفكّر فيه.."، عبارة حمّالة أوجهٍ، ويمكن تأوّلها على أكثر من مذهبٍ، يكون فيها قائلها محقّا من جهة، وغير محقٍّ من 

جهاتٍ.  وهوَ محقّ إذا كانَ القارئ "الكلّ الاجتماعي" بتاريخه وبعقائده، وبقيمه ومدوّنته الأخلاقية، الّتي تنهض أمام المبدع، فتحدّد له ما يجب أنْ يكتب وما لا يجبُ، وتضع له من الخطوط الحمراء ما يسجن تخييله وعباراته وإشاراته. وهنا يكون القارئ تمثيلا وصورة للأطر الاجتماعية للمعرفة، وعلى المبدع أنْ يكون حدث أمام هذه الأطر، متحدّيا بقوّة إبداعه من أجل الكلمة الحرّة. وهذا القارئ، هو الأخطر، لأنّه يملك القوّة والسلطان، وهو السائد من الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، والّذي تنتبه المنظومات السياسية المهيمنة لثباته على أحماله الرّمزية واللّغوية والفكرية، فهو على وجه التّحقيق القائم بحماية السّائد بأنواعه. وقلّة قليلة من الكتّاب "البررة" أو من أخذتهم "جذبة الاختلاف بالكلّية" يقدمون على تحريك السّاكن وتحويله من قارئ مطمئنّ إلى غاضب.

وتاريخ اللّقاء بغضب القارئ المطمئن مدوّنة بأطرافها "علّقت" علامات التّكفير والتّشهير ومحاولات القتل والمحاكمات. وليسَ لمبدعنا هذا الهمّ أو فيهِ هذه "الجذبة"، فلعلّه يقصد قارئا أقلّ 

خطورة.                                                                                         

والأقلّ خطورة قد يكون القارئ من المهمّشين الّذين يقعون في تاريخنا خارج دائرة الكلام، وهم جماعة قد تحتفل بهم لغتنا بعد قرونٍ، كما انتبهت قبل عقود لبعض النّصوص الهامشية، واهتزّت دور النّشر واحتفلت بالغريب وبالعجيب في ثقافتنا الكلاسيكية. والخارج عن دائرة الكلام ليسَ لأنه بلا لسان، ولكنّه ينطق بغير المعجم السّائد، فله معجمه الخاصّ؛ معجم الزّنادقة والعشّاق والمجانين، وصعاليك الإسلام. هذا القارئ يتشكّل داخل كلّ ثقافة وتحاصره، فلا يُسمع إنْ نطق أو نحت عبارة، فهو الموجود بلا وجود من جهة الإقصاء والإلغاء. وهذا المهمّش عميق في تعليقه وفي تعقيبه لأنّه ينطق في زمن غائب من المستقبل البعيد، لأنّه من الّذين "يولدون بعد الممات-نيتشه". وللمبدع أن لا يهتمّ به كقارئ، فهو من القرّاء الّذين لا نفع منهم اليوم، ولكن يمكن الانتفاع من متون 

أسلافه. والقارئ الّذي لا يقصده- بالضرورة- مبدعنا، النّاقد؛ هذا المكوَّنُ أساسا لمتابعة إبداع الكتّاب، وتقديم بيانات في جمالية النّصوص.وهذا القارئ المحترف، أكثر من نوع، فهو من يأتي النصوص لتطبيق مناهجهِ وتأكيد معرفته العلمية، وهو من يتقدّم من النصّ يبحث عن الجديد فيهِ، وهو أيضا من يمارس مهمّته التّاريخية الكلاسيكية فلا يغادر التّعليق والعناية بأصل الكلمة فيحدّد نسبها العربي، ويفتح أضابير التّراث وينشر بيننا جميل الشّواهد المتكرّرة، وكذلك الّذي أوتي جوامع التّقييم وتعالت شهرته بين لجان الجوائز.. لعلّ الأخير فيه من الخطورة. أوّلا، لأنّه لا يبلغ اللّجان إلاّ إذا خبرَ جلّ المواقع النّقدية، واشتهر ببعض المتون في النّقد وقد تكون بعضها من مصادر النّقد ومراجعه. وهذا النّاقد/ القارئ يضعنا أمام سؤال، هل يهتمّ له مبدعنا؟ أظنّ أنّه لا يهتمّ له جهرا، ولكنّه يهتمّ له في سرّه إنْ تقدّم لجائزة.وهذا من حقّه ككاتب.                                                                        

أمّا القارئ الأجلّ، الّذي إليهِ تضرب أكباد الرّجال- وآباطها- فهوَ "السّلطان"، القارئ الّذي من أجله سوّدت المتون، وبيّضت، ونقلتْ المعارف من لغات العالم لأمرهِ، وأعيدت الشّروح للعاصيات من المدوّنات على الفهم لرغبته، وجمعت بفضلهِ مطوّلات الشعراء ومعلقّاتهم. "سلطان" تاريخي، جُمعت في شخصهِ كلّ أنواع المعرفة، واتّفقَ مؤرّخو العلوم والمعرفة على خصّ السّلطان بنوع من الآداب؛ الآداب السّلطانية، الّتي تقاسم موضوعاتها الأخلاقي والسياسي والفلسفي.ولم يخرج من الانتظام إلى هذه الآداب وكتابة الرّسائل والمتون، فقيه أو رياضي أو لغوي أو مؤرّخ أو شاعر أو فيلسوف أو صوفي. وبفضل "الكاتب العربي" بصيغة الجمع، احتفل المخيال الجمعي بصورة الملك أو الأمير المثقف والعلاّمة. ونحنُ نعلم أنّ الغلبة فيهم لأمّية تمنعهم حتّى من مسك القلم، وإنْ مسكوه فالويل للرقّ من سوء الرّسم. إنّه القارئ الّذي لا يقرأ، والّذي يهتمّ بمن يكتب؟ مفارقة عجيبة، بل هيَ سحرية، ولعلّها من شروط الإمارة والملك.                                                                                    

فلعلّ الكاتب لا يهتمّ له، وهوَ محقّ من جهة "حرمة المعرفة والكلمة"، ونظنّ أنّ هذا القارئ -السّلطان، ما خطرَ على خاطر "كاتبنا" الإشارة إليه؛ إنّه السّلطان العارف الّذي باسمه " المقدّس " تقام محافل تكريم المبدعين، وأحيانا، بشروطه يتمّ تقييم "الإبداع"، وبكرمه توزّع الجوائز. والأمس كاليوم بفارقٍ بسيط؛ أن السلطان القديم كان يتكلّم العربية.هذا القارئ شرط وجودي لأكثر كتّابنا، ولا يصحّ حتّى التّفكير بوضعه بقائمة "القرّاء" فيطال واضعه الإلغاء.   

من القارئ، الكلّ الاجتماعي، والقارئ المهمّش، والقارئ النّاقد، والقارئ السّلطان، إلى القارئ الكاتب/ المبدع، كان ترحّلنا السّريع، الّذي هو في حقيقته "استعمال" لعبارة الرّوائي واسيني الأعرج، وتحويل وجهتها، وخطفها من سياقها، لإقامة بيان 

مختلفٍ:

بيان القارئ الّذي لا يهتمّ هو الآخر بــ "مقاصد" الكاتب،  كانت كلّية أو "بعضية"- على رأي علماء الأصول- كلّ همّه أنْ "يقرأ"، بحرية الّذي لا يسمح لأي وسيط أنْ ينثر بين يديه معاني القول، أو أن يلزمه بالاعتناء بالإجماع الأدبي وطرقه في معاملة النّصوص. إنّه قارئ مهموم بموقع الكلام في زمنه، وبالمتكلّمين وإلى أي جهة يوجّهون كلامهم، وهل الكلام الأدبي يشاركه الأفق والحاضر، أم هو نقيض أنفاسه 

وتصوّراته. 

قارئ له تعريفه الخاص لجمالية النّصوص؛ جمالية لا تعرف الحياد، جمالية متورّطة في إنسيّة مقمّطة بالأوجاع، إنسية تحتضن الفرح وعلاماته. ولهذا القارئ شبكة من الأسئلة لا يتردّد في توزيعها كـ "عتبات" يتعرّف بها لأنواع النّصوص. هو يدرك أنه مقيم باللّغة وكائن لغوي.    

                                      

{كاتب وباحث من تونس}