صمتُ الباطن بوصفه ثمرةً لصمت اللسان

ثقافة 2024/04/24
...

 د. عبد الجبار الرفاعي

  ‏الصمت موقف حيال الصخب الذي يملأ العالمَ اليوم. ضجيجُ السيارات والمكائن والمصانع الحديثة، والحروب، وإحراق الغابات واستنزاف الطبيعة، يجهد السمعَ، ويرهق الذهنَ، ويشعر المتلقي بضراوة الواقع وشراسته. مضافا إلى استعمال كلمات ذات دلالات عنيفة في اللغة المتداولة في الإعلام والثقافة وتطبيقات وسائل التواصل والتخاطب بين البشر، حتى نبرة الأصوات المرتفعة في الحديث بين الناس لا تخلو من الغلظة والشدة.

نمطان للصمت: صمت اللسان، وصمت الباطن.كفُّ اللسان عن الكلام موقفٌ ينشد سكينةَ الباطن، لا يمكن أن يسكن الباطنُ مالم يكفّ اللسانُ عن فائض الكلام. 

لا قيمة لصمت اللسان لو لبث القلبُ يحترق بسموم الكراهيات والضغائن والأحقاد. تدريب الباطن على الصمت يتطلب أن يروّض الإنسانُ نفسَه على الهدوء، ويتخلص من الانغمار في المجالس الصاخبة، ويطهّر لسانَه من الكلمات البلهاء، ويقتصد في استعمال الكلمة، ويبتعد ما أمكنه عن الكلام في كلِّ شيء، ويكتفي بما هو نافعٌ وضروري من الكلام، عندما يفرض عليه الموقفُ ولادةَ الكلمة. وقبل تهذيب لسانه وبعده عليه أن يُطهِّر قلبَه من الكراهية، ولا يُطهِّر القلبَ إلا اغتسالُه بالحُبّ.

 لا يمكن أن نضع تعريفًا مانعًا جامعًا للصمت، مادام صمتُ الباطن حالةً وجودية، والحالات من هذا النوع عصيةٌ على استكناه ماهيتها، وإن كان يمكن توصيفُها، والحديثُ عن نتائجها وآثارها. ذلك ما يجعل الكلامَ حول الصمت أشبه بتوصيف ما يتذوقه العرفاءُ وذوو التجارب الدينية لحظةَ إشراق وتجلي الروح وصفائها، اللغة تضيق عن التصور الواضح لكيفياتِ التجلي والتعبيرِ عنها كما هي. 

 من أثمن ثمرات صمت الباطن قوةُ الإرادة وشحذُ فاعليتها، وقدرتها على جعل الإنسان يتسامي ليحمي ذاتَه من الأنماط المتعدّدة للاستعباد، وإنتاجُ طاقةٍ خلّاقة تمكّن إرادةَ الإنسان من التحرّر من كلّ حاجةٍ ورغبة تمتلكه، وتجعله قادرًا على التحكم بكلِّ شيء، من دون أن يتحكم به أيُّ شيء، مهما كان بريقُه وإغواؤه. العرفان في الأديان، خاصة الآسيوية منها، ‏يهتم اهتمامًا ملحوظا بالصمت، ويبتكر رياضاتٍ متنوعة تستقي من الصمت وتستلهم منه طاقتَها. الإرادة تتجذّر وتتصلّب حيثما يكون الصمتُ تمرينًا متواصلًا يفرضه ارتياضٌ روحي، لا سيّما لو التزم المرتاضُ بالصمت يوميًا بشكلٍ منتظم.

‏ أن تعيش الحالةَ غير أن تفكر فيها، الصمتُ يمكّن الإنسانَ من أن يعيشَ حالةَ الايمان والحُبّ والسلام الداخلي ويتذوقها. لا ينشغل مَن يتذوق الحالاتِ بالنظر والتفكير والكلام عنها، كثرة الكلام تفسد التذوق. صمت الباطن حالة يعيشها الإنسانُ في أعماقه، وهو لا يتحقّق بلا ارتياضٍ متواصل، وتدريبٍ لتحرير النفس وخفض حساسياتها وانفعالاتها وغضبها وأغلالها إلى أدنى مستوى ممكن، وتطهيرِ القلب من الضغائن والأحقاد. ‏أما صمت اللسان فهو فعلٌ إرادي تستطيع اتخاذَه الشخصياتُ الصارمة. 

‏ صمتُ الباطن يمكن ‏أن يخلّصَ الإنسان من عبوديتِه للمادة، واللهاثِ وراء المتع الرخيصة، والتهافتِ على سرابٍ سرعان ما يتلاشى. عندما يصير الصمتُ نافذةً للتأمل الصبور، يمكن أن يعمل على انبثاق النور في روح الإنسان، ويجعله قادرًا على الإنصات لصوت الله في الوجود. 

الصمتُ الباطني حالةٌ تكرّس كينونةَ الإنسان وتثريها بالمعنى. هذا النوعُ من الصمت كان الرصيدَ الذي لن ينضب لشخصياتٍ ملهِمة مؤثرة جدًا في الحياة. من يكتسي هذا الصمتَ يخلع على ذاته هالة، خاصة إن كان ذا مقامٍ ديني أو علمي أو اجتماعي، فيشعر مَن يتعامل معه بسحرٍ خاص في شخصيته، ويطغى حضورُه حيثما يحضر، وتؤثر شخصيتُه الوقورة فيمن حوله، وإن كان لا يتحدث. 

 وحده صمتُ الباطن ‏يمكّن الإنسانَ من التوغلِ في الذات واكتشافِ طبقاتها العميقة، والتخفيفِ مما يثقل كاهلَها من أعباء تفوق طاقتَها. إنه صمتٌ تأملي يقظ، يحاور الذاتَ ويستبطنها في مونولغ داخلي تتحدث فيه الذاتُ لذاتها. ‏وينبعث فيه الذهن، ويصفو الباطن، وتجد فيه الحياةُ حضورَها الحيوي وتتجدّد قدراتُها. ويصيّر شخصيةَ الإنسان عصيةً على الإغواء، والتهافتِ على الغرق في المتع الحسية الآنية، والتهافتِ على العلاقات الاجتماعية العشوائية. بالصمت التأملي اليقظ أنجز الإنسانُ كثيرًا من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات الأدبية والفنية الثمينة. 

 من مكاسب صمت الباطن صناعةُ الشخصيات الاستثنائية المتفرّدة الفذّة، القادرة على تحمل الوحدة والتكيّف معها، من دون شعورٍ بحاجةٍ للجري وراء شخص أو أشخاص يحتمي بهم الإنسانُ من الشعور المخيف بوحشة الوجود. يمنح هذا الصمتُ الإنسانَ قدرةً خلّاقة، ففي الوقت الذي يكون فيه وحدَه، ‏يشعر بصلةٍ حيّة بما حوله، وكأنه واحدٌ من حيث أنه متعدّد، ومتعدّد من حيث أنه واحد. 

 صمت الباطن منبع النور والحكمة والسلام، إنه جذوةٌ تنتج طاقةً متقدة تتيح للإنسان السفرَ في رحلة يتوغل فيها للتعرّف على الطبقات الغاطسة لنفسه وما هو مختبئٌ فيها، ومنها ينطلق لاكتشاف الإنسان والعالم من حوله. مَن يعجز عن التوغل في أعماق نفسه، ومعرفة ما يغوص بداخله، يعجز عن اكتشافِ العالم، والتعّرفِ على الإنسان المختلِف من حوله. الصمت نافذةُ ضوء للتأملِ والنظرِ البعيد الغور والتدبرِ في الذات، وانبثاقِ الأسئلة الوجودية الكبرى، وكما تنبثق هذه الأسئلةُ في فضاء الصمت يتوالد شيءٌ من إجاباتها في فضائه. هكذا يصير الصمتُ ملهِمًا للمعنى، ولبعض الإجابات المتناغمة مع الواقع لهذه الأسئلة. 

‏‏‏‏ تكسر وسائلُ الاتصال الحديثة والتطبيقاتُ المختلفة الصمت. أينما تذهب اليوم تلاحقك الفضائيات، وتطبيقات وسائل التواصل المختلف، وهي تقصفك، بسيلٍ هادر ليلَ نهار، بكلامٍ مكرّر، مشوبٍ بدعاية مبتذلة. أكثر الأخبار السياسية مريرة، وكثيرٌ ممن يقدمون التحليلات مهنتُهم تكديسُ الكلام على الكلام. بعضهم يتكلم بكلماتٍ بلهاء، وكأن مهنتَه أن يحكي، بغضّ النظر عن مضمون ما يقول وقيمته ومصداقيته. ‏تطبيقات وسائل التواصل أتاحت للجميع التحدثَ للجميع، ‏فعندما يحضر إنسانٌ جاهل ثرثار على منصة تطبيقات تضمّ مليارات البشر، يظل يهذي بطريقةٍ تتسبّب بصداع رأس المتلقي. إن كنتَ تقرأ كلماته، أو تستمع إلى أحاديثه، أو ترى ما ينشره من صور وأشكال تعبيرية، تشعر بالقرف.

كان مثلُ هذا الإنسان يتحدث لعدد محدود ممن حوله في مقهى أو مجلس أو مناسبة اجتماعية، أما اليوم فهو يؤذي مَن يتابعه على منصة هذه التطبيقات. ‏

الصمت كان أكثرَ من الكلام في حياة الإنسان، تضخّمُ الديموغرافيا اليوم وازدحامُ الأرض بالبشر، وتراكمُ فضلات المنشئات الصناعية المتنوعة، وهستيريا الحروب، والتغييرُ المناخي، مزّقتْ صمتَ الطبيعة، وقدّمت الكائنات الحيّة المتوطنة في الأرض منذ مليارات السنين قربانًا لعبثِ الإنسان واستهلاكِه الفاحش للموارد الطبيعية، واستئثارِه بكلِّ شيء، وإبادتِه المتوحشة للأنواع الحيّة، بمختلف الوسائل الفتاكة. بقايا هذه الأنواع تستغيث فلا تُغاث، فزعًا من قهر الإنسان وإبادته لما تبقى منها في الأرض. أمست آهاتُ الأرض تستغيث من فتك الإنسان، وصار إنسانُ اليوم كثيرَ الهذر، وغارقا في استعمال مختلف الآلات، ومعظمها تصدر أصواتًا، وأغلب تلك الأصوات غريبةٌ على ما يألفه سمعُه. قلّما يجد إنسانٌ اليومَ محطةَ استراحة يحتمي فيها بصمت متأمل من الضجيج والضوضاء والكلمات الخرقاء.كلُّ ذلك لا يسرق العمرَ فقط، بل يسرق أثمنَ شيء في حياة الإنسان وهو سلامُه الداخلي.

 واحدة من خطايا الأيديولوجيات المتفشية في بلادنا تجاهلُ التربية على الصمت والتأمل والتفكير والتساؤل، بل تعمل بالعكس على تحريض مَن ينخرط فيها وحثُّه على التحدث في كلِّ شيء وعن كلِّ شيء، بلغةٍ مشبَعة بالوثوقيات والجزميات النهائية. يحفّز الحثُّ على التحدث شهوةَ الكلام بمختلف القضايا، بلا تكوينٍ فكري يوفر غطاءً مناسبًا للحديث.

  المؤسسات التربوية والتعليمية، والثقافية والإعلامية، والاجتماعية، والدينية، والحركات السياسية في بلادنا، تنهمك في بناءِ كياناتها بتكرارِ شعارات وكلمات رعناء، وتقيِّم مكاسبَها وتختبر نجاحاتِها في سياق ما تحقّقه من مهرجانات تعبوية واحتفالات ومارثونات وشعارات، وما تراكمه من فائضٍ لفظي لعباراتٍ وكلمات جوفاء، من دون أن ترى فيما تقدّمه منجزاتٍ حقيقية على الأرض لصالح الشعب، وبلا أن تكثّف جهودَها لبناءِ الوطن، وحمايتِه من الأخطار.