جيني بروير
ترجمة: مظفر لامي
في بريطانيا، يعد الرسم في المحاكم مهنة تخصصية بامتياز، رغم أنها أصبحت مؤخرا مهددة بالزوال بعد إقرار قوانين جديدة في كانون الثاني2020، تسمح بدخول الكاميرات لقاعات المحاكم لنقل ملاحظات الحكام في القضايا الجنائية البارزة. وإذا كنتَ قد قرأتَ صحيفة في هذه البلاد يوم ما، فمن المرجح أنك قد اطلعت على عمل لواحدة من أربع نساء بلغن مرحلة الاحتراف في هذا النوع من الرسم، وهن كل من بريسيلا كولمان، وسيان فرانسيس، وجوليا كوينزلر، واليزابيث كوك.
وأيا كان الرسم، كنت ستلاحظ مميزات الأسلوب الذي ترسم به أعمال ميدانية كهذه؛ فهي حافلة بالعناصر والشخصيات التي تظهر بأوضاع حركية تجسد انفعالاتها، وكل ذلك يتم لسبب وجيه؛ فالأمر الذي يجهله معظم المتلقين لهذه الأعمال أن الرسم في قاعة المحكمة أو التقاط صورة فوتوغرافية هو أمر غير قانوني في المحاكم البريطانية. لذا، لا يتعين على هؤلاء الفنانين أن يكونوا رسامي بورتريه ذوي مهارة عالية فحسب، بل يتوجب عليهم أيضا أن يمتلكوا ذاكرة تشبه ذاكرة الأفيال في ما يتعلق بالوجوه والمساحات لكي ينجزوا أعمالهم الفنية. وهم يقومون كذلك بتدوين ملاحظاتهم أثناء انعقاد الجلسة قبل أن يهرعوا لغرفة الصحافة لإتمام الرسم والتلوين بالسرعة الممكنة، وعادة ما يكون ذلك خلال ساعة أو ساعتين من الموعد النهائي للوصول إلى الزبون أو الناشر أو القناة التلفزيونية.
تقوم بريسيلا كولمان بهذه المهمة منذ انتقالها من الولايات المتحدة في الثمانينيات، بعد أن عملت كمديرة فنية في وكالات الإعلان وشركات الطباعة. وهي لم تبتعد كثيرا عن عمل والدتها كرسامة أزياء، المهنة الأخرى التي تحتاج إلى سرعة كبيرة في إنجاز الرسم. في سن مبكر، شاهدت بريسيلا فنانين يصورون جلسات الاستماع لفضيحة ووترغيت. ومع رغبة الصحف المتزايدة بإظهار ما يجري داخل المحاكم على صفحاتها، حصلت على فرصتها الأولى لرسم وقائع الجلسات في قضية التشهير الخاصة بجيفري آرتشر، ومنذ ذلك الحين لم يقف أمامها عائق للمضي قدمًا في هذه المهنة المثيرة. وفي سياق جرائم مروعة كهذه تكون مراجعة يوم عمل أمرا محببا للغاية، فبريسيلا لديها عدد لا يحصى من الحكايات حول التدافع المجنون لإنجاز عملها الذي يتم غالبا في ظروف صعبة يغلب عليها الهزل والطرافة. تقول ( يبدو الأمر كما لو كنت تحفظ استعدادا لاختبار، فأنت تنسى التفاصيل وتكون بحاجة لكتابة ملاحظة تنشط ذاكرتك. ذات مرة، اضطررت إلى رسم مجموعة من خاطفي الطائرات، وكان لديهم جميعًا شعر أسود لكن بتسريحات مختلفة، أحدهم كان لديه سوالف طويلة، فكتبت ( إلفيس )، والآخر كان نحيفًا، وصفته ( برجل الهيكل العظمي )، وآخر ( أنف البطاطس ) أو (الشعر المقلي )، وآخر ذكرني بصديق سابق فكتبت اسمه، على أية حال، وجوه الناس مدهشة ).
تبدأ المتعة بعد تدوين الملاحظات، حيث يشق الفنانون طريقهم لما تسميه بريسيلا غرفة الصحافة ( البدائية )، ليقوموا بوضع ملخص لهيئة وملامح الشخصيات بالسرعة الممكنة – الادعاء والقاضي والمدعى عليه - وأجواء المحكمة في صورة واحدة. تستخدم بريسيلا الأحبار المائية والباستيل الزيتي، وأحيانا أوراقا بقياسات كبيرة تضطر للوقوف لكي تغطي مساحتها. ويمكن التعرف على رسوماتها من خلال الألوان النابضة بالحياة والخطوط البيضاء حول شخصياتها التي تكسبها مزيدا من الحيوية.
في المقابل، تبدو رسومات جوليا كوينزلر واليزابيث كوك التي تستخدمان فيها ألوان الباستيل أيضًا أكثر ثباتًا. تقول منسقة المعارض كاتي ماكوراش: ( تختار جوليا التركيز على واحدة أو اثنتين من الشخصيات الرئيسية، كما لو أنها تركز على تفاصيل أساسية لذكرى ما ). ويذكر جون هيويت الرسام المحاضر في كلية مانشستر للفنون أن أسلوبي جوليا واليزابيث مناسبان بنفس القدر لأجواء المحكمة. على النقيض من ذلك، نلاحظ أن رسومات سيان فرانسيس توضيحية وأكثر تقليدية، إذ تستخدم خطوطا بقلم الرصاص والألوان المائية، وهي مهارة تتطلب السرعة في العمل، كما تقول كاتي مضيفة: ( إنها تستخدم مساحة الورقة لتصور قاعة المحكمة بأكملها، وهي في ذلك تظهر الاهتمام والسرعة). تعلمت سيان هذه المهنة من والدها، الذي كان أيضًا رسامًا في المحاكم، بينما تدربت جوليا على رسم الصور الشخصية في النوادي الليلية. والملاحظ هنا أن الرسامات الأربع قد تعلمن هذا النمط من الرسم بجهودهن الشخصية.
في عام 1925 تم حظر التقاط الصور في المحاكم البريطانية في أعقاب الأحداث التي رافقت محاكمة الزوجين البريطانيين اللذين أدينا في نهاية القضية بقتل زوج طومسون بيرسي. كان الزوجان شابين لهما شعبية ومكانة اجتذبت جمهورا عصريا كبيرا لقاعة المحكمة، بينما تعاملت الصحافة مع القضية على أنها حدث منسوب للطبقة الراقية، تطلبت تغطيته التقاط صور لجميع الحضور، الأمر الذي اضطر القاضي لتقديم شكوى اتهم فيها ذلك السيرك الإعلامي بالتدخل في عدالة المحكمة. ونتيجة لذلك، أصبح من غير القانوني التقاط أي صورة في قاعات المحاكم في المملكة المتحدة. وفي الولايات المتحدة الأمريكية حدث أمر مماثل، إذ أدت محاكمة أوجيه سيمبسون والجنون الإعلامي الذي أعقبها إلى حضر الكاميرات في العديد من المحاكم، وعودة الرسوم التوضيحية.
يقول جون هيويت: ( المجرم ذو الشخصية الكاريزمية هو هدية للوسائل الإعلامية، والكاميرات تستهوي محبي الظهور. بالإضافة لذلك، فقدان رسوم قضايا المحكمة يعني التخلي عن المساهمة المنتظمة الأخيرة للفنانين في تقارير الأخبار. ومما لاشك فيه أن رسوم الفنانين في المحكمة توثق مجريات القضايا التي تكون بمثابة ذاكرة للمحكمة يمكن أن تستخدم كأداة إثبات. فهي عبارة عن وصف سردي أو قصة مرئية تصور كل لحظة في المحاكمة، خلافًا لصورة الكاميرا التي تظهر لحظة واحدة فقط ). على أية حال، الرسوم التوضيحية ما زالت موجودة في الصحف، والقراء يواصلون متابعة قضايا المحاكم من خلالها، فهي تضفي طابعا رسميا ورصانة على القضايا، وهو أمر يحظى بتقدير كبير. وبخصوص نقصان شعبيتها بسبب بعض الرسوم الكئيبة، ترى بريسيلا أن الفنانين الشباب مدعوون لأخذ هذه المهنة في اتجاه مختلف، رغم ما يلاقون فيها من مصاعب. إذ تقول: ( أود أن أرى بعض الأعمال الفنية الرائعة في الرسوم التوضيحية التي تنجز في المحاكم ).