هل أصبحت القراءة موضة الزمن الحالي؟

ثقافة 2024/04/24
...

صفاء ذياب



على الرغم من اهتمام الفلاسفة والباحثين بما يعرف بـ(نظريات القراءة) منذ عشرات السنين، وبروز مدارس خاصة، مثل مدرسة ياوس وآيزر، وغيرهما من النقّاد، غير أنَّ ما جاء مع انتشار التقنيات الحديثة غيّر هذه المفاهيم ككل. ففي الوقت الذي كان النقّاد معنيين فيه بنظرية الأدب، وتحوّلاتها، وصولاً إلى المصطلحات التي ركّزت على القارئ بعد أنْ مات على يد رولان بارت منذ أكثر من نصف قرن، إلّا أنَّنا نعيش اليوم في زمن يختلف في مفاهميه للقراءة، فأصبحت هذه الكلمة (مطيّة) من يريد أنْ يكتبَ أيَّ شيء، حتى أنَّ الكثير من القصاصين والشعراء والروائيين، حينما يكتبون تقارير صحفية عن كتب قرؤوها، يصدرون كتباً تحت مسمى (القراءة)، ما دفع غيرهم الكثير لتبني هذه العنونات التي انتشرت بسرعة البرق، وأصبحت بالتالي الأكثر مبيعاً في دور النشر ومعارض الكتب، فكيف لا؟ والقراء الجدد يريدون قراءة مقالات بسيطة تصل حدّ السطحية، ليتحدّثوا بعد ذلك عن هذه الكتب وطرح ثقافتهم التي لا تتعدى غلاف الكتاب فحسب.

والآن، بعد أنْ انتشرت الكتب المعنيَّة بالقراءة (بالتحديد)، وتوجّه الكثير من الشباب إليها، فضلاً عن انتشار الروايات الكلاسيكيَّة على الإنستغرام ووسائل التواصل، هل أصبحت القراءة موضة الزمن الحالي بعد أن كانت توجّهاً معرفياً..؟

أجيال متصارعة

يدرج الكاتب علاء الدين شهاب شذرة فلسفيَّة بعنوان (جيل الوعي الشقي) عقد بها الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي مقارنة بين جيلين من القرّاء والمثقفين فيقول: “لم يكن الجيل- ويعني به الجيل السابق- ليتساءل عمَّن هو المثقف، ولا ليعقد الندوة تلو الأخرى ليبحث علاقة المثقف بالسلطة. لكنَّه كان يعيش حركة ثقافية فعلية، حركة تشكّل سلطة ضدَّ السلطة، حركة مغروسة في المجتمع، تحلم بأحلامه وتفصح عن رغباته وتعبر عن مطامحه وتنطق لغته. كانت الثقافة بالنسبة لهذا الجيل إذن عادات وسلوكاً وأذواقاً، ولم تكن قط مهرجانات ومؤتمرات وندوات، كانت إبداعاً ونقداً ونضالاً طبقياً على مستوى الفكر...

نحن هنا بحسب رأي صاحب (جرح الكائن) وغيرها من الكتب الفلسفية النقدية، أمام أزمة ثقافيَّة حقيقيَّة تعاني صراعاً شرساً بين جيلين؛ جيل قديم يبحث عن الأصالة والعمق المعرفي، وجيل حديث يبحث عن التسطيح والانتشار والشهرة على حساب رصانة المعلومة ودقّة البحث والتحقيق، ولعلّ البحث اليوم عن الأضواء والشهرة والجوائز والتكريم قد عمّق الهوّة بين الجيلين، وجعل المسافة تستعصي على الردم والتقريب.

ولعلَّ أبرز مشكلة تواجه الجيل الثقافي الجديد اليوم هي المجاملة الشخصية على حساب الثقافة والفكر والأدب، إذ لابدَّ من تهيئة جيل جديد ملتزم بحريّة التعبير وتحمّل مسؤولية النقد الفكري الحرّ، بعد أن يتمكّن من آلاته ووسائله وخطابه، فدراسة النقد المعرفي ولغة الحوار الهادئ وتفعيل دوره هي واجب الوقت اليوم من أجل ردم الهوّة بين جيلين، أحدهما يحمل راية الأصالة والعمق الثقافي والمعرفي والآخر ينادي بلغة الإعلام والانتشار وإن على حساب المفاهيم الأخرى، وكلّ له دوره بلا شكّ في رفد الثقافة وتعزيز لغة الحوار للانتقال بالقراءة وتحويلها من مجرّد موضة ثقافية مؤقتة إلى مسؤولية حرّة هادفة ودائمة.

موجهات القراءة

ويؤكدَّ الروائي نعيم آل مسافر أنّه بعد أن مرّت عملية القراءة بمراحل كثيرة، وتغيّرت مفاهيمها كفعل ثقافي واجتماعي ومعرفي، واختلف موقع القارئ ودوره في خضمِّ هذه التغيّرات، فمن المؤكّد أن تتغيّر صورة ذلك القارئ، ولاسيّما داخل نمط ثقافي تعزّزه أغلب الكتب المعنية بالقراءة، صورة (كليشيه) للمثقف القارئ، ومن تلك المراحل موت المؤلّف على يد رولان بارت وولادة القارئ ليكون النص متعدّد التأويلات، ويكون القارئ منتجاً جديداّ للنص بدلاً من أن يكون مستهلكاً فقط، ثمَّ جاء موت الناقد أو موت القارئ التقليدي الذي ألغيت هيمنته. أي أنَّ القراءة لم تعد مقتصرة على القارئ النموذجي الذي يوجّه القراء. وذلك بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت القراءة متاحة للجميع، وأصبح إبداء الرأي متاحاً للجميع، وحسب مرجعياتهم الثقافية. كما ساعد على ذلك ظهور الكتب المعنية بالقراءة، والكتب الالكترونية والروايات على وسائل التواصل الاجتماعي والحكايات التي يحسبها بعضهم قصصاً أو روايات.

لكنّها- في الأعم الأغلب- قراءة سريعة غير فاحصة لا يوجّهها الدافع المعرفي. لأنَّ هذا النوع من المتلقّي ذو عقلية (شفاهية)، فبعد عصر الكتابة والطباعة لم تعد هنالك ثقافة شفاهية، بل تلقٍّ (شفاهي). حيث يعد (والتر وانج) وسائل التواصل الاجتماعي شفاهية ثانوية، مقابل الشفاهية الأولية التي كانت حاضرةً قبل عصر الكتابة والطباعة. وبما أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي هي موضة العصر، فإنَّ هذا النوع من القراءة غير الفاحصة هو موضة العصر أيضاً.

من المثقف إلى الكائن

ويبين الشاعر علي إبراهيم الياسري أن مواقع التواصل هيمنت على الفعل القرائي لكثيرين، لدرجة تحوّلت معها القراءة إلى اللا فعل، وهذا ما دفع المضامين لتتحوّل إلى “وجبات سريعة” لتجد لنفسها مكاناً في عالم السرعة، بل على المقروء أن يكون محتوى جاهزاً بالسرعة القصوى، لا مزيد من الوقت لأن تتشكّل المفاهيم رويداً رويداً، أغلب القرّاء يبحثون عن كتب سريعة الهضم، صالحة للاقتباس.

صارت القراءة موضة نعم، يلبسها عارض الزي، وينزعها بعد “نظرات المتفرجين”، من دون أن تترك شيئاً، يبقى في الذاكرة، فات زمن الكتب المعمّرة! مع وجود استثناءات طبعاً.

مضيفاً: أن تمتلك توجّهاً معرفيّاً في العراق مثلاً، أمر يتعلّق بالاستعداد للخسارة، المعرفة في مجتمع تتسيّده الجهالة، تعني أن تكون قلقاً، ولا تحظى بحياة اجتماعية مستقرّة، أعرف بعض المثقفين الذين يشربون من دون علم زوجاتهم، خوفاً على كيان الأسرة من الضياع من وجهة نظرهم! فكيف سيتبنّى، هذا المثقف الخائف من التعبير عن نفسه في أمر بسيط كهذا أمام الزوجة، توجّهاً معرفيّاً صعباً (أمام الجميع) سيجعله حافلاً بالخسارات؟!

طبيعة مواقع التواصل، حوّلت المثقّف إلى كائن، يريد أن يكون محبوباً من الجميع، ومتفقاً عليه، لا يرغب في الاصطدام بأحد، ستجد صفحته حافلة بالرقّة المفتعلة وحبّ السيئين والجيدين على حدٍّ سواء!

حتّى من يشار لهم بالبنان، مشغولون بجمع المريدين ومن يضغطون “لايك” باستمرار، أمَّا المعرفة فيبدو أنَّها وحيدة تشغل “بال الوحيدين” في زمن المعلومات المجانية التي تتراكم في الرؤوس الخاوية من دون أن تشكّل شيئاً يذكر.

طُفّليات نَفعيّة

وتكشف الكاتبة والمترجمة رغد قاسم أنَّ لهذا الانتِشار جوانِب إيجابيّة وسَلبيّة؛ فقَد يُسهم باستِفزاز عقول الأَفراد، لتُصبح مِثل هذه الكُتب بَوّابة لتَشجيع الفُضول للبحث والقِراءة العَميقة، فتَعمل كمَدخل لاكتِساب مَهارات القِراءة الواعِية، لاسيَّما بَينَ صِغار السِنّ. في المُقابِل فإنَّ انتِشار الكُتب الَّتي تتحدَّث عَن القِراءة، لا يَبدو مُتَوازياً مع انتِشار القِراءة ذاتها! فقد أَصبحَ الاهتمِام بالكُتب بصورة عامة يُركِّز عَلى الجاذِبيّة البَصَريّة للغِلاف، والمُحتوى السَهل، البَسيط، فيراوحُ كثيرون مَكانهم بينَ أَسماء الكُتب والمَفاهيم الفِكريّة دونَ لَمس جَوهر الفَهم، مِمّا يُحيد التَركيز عن القِراءة العَميقة والتَفكير النَقديّ. هذهِ السَطحيّة في التَعامل مع الكِتاب، تَضخُّ أعداداً غير قَليلة مِن المُتطفِّلين في المَشهد الثَقافيّ، طُفّليات نَفعيّة لا تقرأ ولا تُنتج، تَضرُّ بالحَراك الفِكريّ، ولا تَنفع؛ شَخصيّات تَتسيَّد المَشهد الثَقافيّ، وتَقوده نحو الهاوِية، بسبب حُبّها للظُهور، فتطغى على أَصوات المُثقَّفين الأَحِقّاء. والِقراءة حين تُصبح تَمثيليّة للثَقافة بدون فَهم وتَمحيص، تَفقد قيمتها الحَقيقيّة كأَداة للتَثقيف والتَحوُّل الفِكريّ.

 طقوس خاصّة

ويعتقد الشاعر زين العابدين سرحان أنَّ هذا النمط المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، كاد يخلو من التوجّه المعرفي بمعناه الحقيقي، الذي يبحث عنه القارئ المتعطّش للمعرفة والبحث عن المعلومة، وحتَّى الاستمتاع بما تحتويه هذه الكتب الكلاسيكية من جماليات أدبية، تساعد على بناء مجتمع مثقف.

فقد اتخذت المواقع والصفحات المعنيّة بالترويج لهذه الكتب طرقاً تخلُّ برزانة كتب مهمّة، حتَّى صارت مشهورة على نطاق واسع تداولها أناس غير معنيين بالقراءة سوى أنَّهم يدعون الثقافة والمعرفة لأغراض عديدة، فنحن نشاهد ما ينتشر على هذه المواقع من روايات مهمة لكتّاب عالميين مثل ديستوفسكي أو كافكا، وحتَّى نجيب محفوظ، تنتشر بصورة مستهلكة، وبعيدة عن قيمة هؤلاء المبدعين، ممَّا جعلت أعمالهم تبتعد عن قائمة القرّاء الحقيقيين، لما لها من تأثير بشكل شعبوي على الذي يبحثون عن الكتب التي تثريهم، وتفتح أمامهم آفاقاً مهمّة، لأنَّ القراء لهم أمزجتهم وطقوسهم الخاصة، فنلاحظهم يميلون إلى ما هو أقل رواجاً في أحيان كثيرة.

ومن جانب آخر أقل حدّة، أعتقد أن هذا الرواج مهم أيضاً، لأنَّه يحرّك بشكل أو بآخر الجانب الثقافي الذي أنهكته وسائل التواصل الاجتماعي، التي قلّلت من ساعات القراءة والبحث عن المتعة الأدبية، فلقد صارت نادرة وغير مألوفة إلَّا على نطاق ضيق، فلم نرَ منذ دخولنا في عالم الانترنت شخصاً يقرأ صحيفة أو يتصفّح كتاباً في حافلة أو مكان عام إلَّا ما ندر، إذ كان الناس في السابق يقرؤون الصحف، والكتب الأدبية بشكل جيّد، عكس ما نراه اليوم.

لكنّني أستمتع أحياناً بما تنشره بعض المواقع من كتب مهمّة، وأحاول اقتناءها إذا كانت متوفّرة ورقياً أو حتَّى بصيغة إلكترونية، وعليه لنهوض بهذا الواقع يجب أن تهتم المؤسسات الثقافية بدعم الكتب الجيّدة، وإبعادها عن الإسفاف الحاصل لها من جرّاء ما يتداوله قليلو الخبرة في المجال الأدبي، الذين أسدلوا ستارة المعرفة، محاولين تهذيبهم وإرشادهم إلى كيفية التعامل مع الكتب بصورة تخدمهم، وتخدم الحركة الثقافية التي باتت تتلاشى.

بين الحاجة والتسلية

من جانبه، يشير الشاعر مالك مسلماوي إلى أنَّ أقرب توصيف للقراءة هو أنَّها توجّه معرفي، فهي مصدر المعرفة الأوّل، وهي الوسيلة المتيسّرة عبر الزمان والمكان، ومن وجهة نظر اجتماعية ترتبط بمستوى الوعي المجتمعي من ناحية وبمجمل الظروف الحاكمة في مرحلة ما. ولا تكون القراءة هدفاً مجرّداً، فإن كانت كذلك فيمكن أن نصفها حينذاك بـ(الموضة) وإن كان ذلك نادراً.. وبعيداً عن التسميات العدّة لأنواع القراءة، فسنحدّث هنا عن القراءة الحرّة، ذلك النشاط الفردي في عملية التعلّم أو التثقيف الذاتي الذي له الأثر الكبير في بناء الشخصية ورفع مستوى وعيها. والمتفق عليه حالياً أنَّ هذا النشاط يعاني ضموراً حادّاً في مجتمعنا الذي ما زالت نسبة الأمّية فيه تحافظ على معدّلاتها العالية.

ويضيف: في بحث ميداني أجريته على المدارس الإعدادية في محافظة بابل عام 1999 تناول واقع المكتبات المدرسية، من بين نتائجه أنَّ نسبة استعارات الكتب إلى عدد الطلبة كانت أقل من 20%، وهو مؤشّر مؤسف. وأعتقد أنَّ النسبة الآن قد تتدنّى الى حوالي 10%، كما أعتقد أنَّ النصيب الأكبر سيكون للكتاب الديني.. ومن المؤسف أيضاً أن يشهد سوق الكتب كساداً مع حجم العرض الهائل المكدّس على الأرصفة أو على رفوف المكتبات، وفي البيوت نادراً ما تجد كتاباً أو مكتبة، وربَّما وجدت كتاب أدعية أو (زيارة) للأئمة والأولياء. إلى جانب ذلك نشطت القراءة الإلكترونية وتفوّقت بشكل واسع على القراءة الورقية، فهدفها الأول هو التسلية وسد الفراغ، والاختلاف كبير بين ما يضمّه كتاب رصين وما يعج به الإنترنت من ثرثرة واختلاط المفيد بالبليد والمهم بالتافه.

 أوقات ضائعة

ويرى الكاتب سعد فتح الله أنَّ للقراءة آثاراً إيجابية عديدة للشباب بشكل خاص، إذ إنَّها تنمّي عقولهم وتغذّي فكرهم وتوسّع إمكاناتهم وتطوّر لغتهم، فضلاً عن أنَّها تكون من أفضل الأعمال التي تشغل أوقاتهم، لاسيّما الأوقات الضائعة التي كثيراً ما تذهب هباءً خلال التنقّل من مكان إلى آخر في ظلِّ الازدحامات الخامسة التي نعاني منها في العراق بشكل عام، وفي بغداد بشكل خاص.

ويبقى التساؤل: هل أنواع القراءة مفيدة كلّها؟ الجواب برأيي نعم، لأنَّ القراءة تطلع القارئ على التنوّع في الآراء والأفكار والثقافات ومنها توسّع إدراكه لهذا العالم الذي يتغيّر بسرعة لا ندركها إلَّا باستغلال الوقت أفضل استغلال ممكن.

وللأسف الشديد فمعظم الشباب لا تهمّهم إلَّا قراءة الكتب الدراسية المفروض عليهم، وهذه الكتب تخسر تفكيرهم في نطاق محدود جدّاً برغم أنَّها تمنحهم بعض المعلومات التي تغيّر من إمكاناتهم العلمية.

إنَّ الجهود التي يبذلها بعض المثقفين في إشاعة ظاهرة القراءة تعدُّ جهوداً تخلّف جيلاً مثقفاً مدركاً ملتزماً، وقد تخلّف فيهم تقبّل الآراء المختلفة وحب الثقافة التي تنمّي وطنيّتهم وأخلاقهم لمجتمعاتهم وتطويرها.