الإبداع في المراحل الانتقاليَّة

ثقافة 2024/04/24
...




عباس منعثر




شهد القرن الثامن عشر فترة زمنية طويلة كتوطئة لحركة قلبت وجه الأدب إلى الأبد. فمن خلال شعراء المقابر، ونهضة فن الكوثيك، وعصر الحساسية، والتقليد التصويري، والعودة إلى الفلكلور، تمّ التمهيد للرومانسية الإنجليزية. اتسمت هذه المرحلة الانتقالية بخصائص تشدها إلى الماضي التقليدي وخاصة على مستوى الشكل؛ واتسمت بالتجديد في ما يتعلّق بالمضمون.

هي إرهاصات لم تكن تنتمي إلى الكلاسيكية بشكل كامل ولا إلى الرومانسية بشكل كامل. غياب التطرف يؤدي إلى اللاشخصية، بمعنى أن توسطية هذه المرحلة جعلتها تمتلك خصائص سيتجاوزها الزمن، وخصائص أخرى متجاوزة للزمن في آن واحد. هذه الخلطة من الانتماء والتجاوز تخلخل المرحلة وتحيلها لا منتمية تماما ولا متجاوزة تماما. فالشاعر هنا يتغنى بالطبيعة غير أنه لم يحولها إلى مصدر إلهام مستقل بعد، ولم يعاملها كشيء من موجودات الحياة أيضا، فتصبح الطبيعة، بذلك، كائنا فيسيفسائيا متعدد النسيج، حتى تأتي الرومانسية على يد وليم بليك ووردزورث وكولرج لكي تستقل نهائياً عن الروحية الكلاسيكية ولترتمي في الخيال الرومانسي.

وبالمثل، الرواية الإنجليزية مرّت بأمر مشابه أثناء تطورها. من المتعارف عليه أن جيمس جويس وفرجينيا وولف يمثلان قمة من قمم الحداثة الروائية في التقليد الأدبي البريطاني شكلاً وموضوعاً. قبلهما، أي في زمن الواقعية، اجتاز تاريخ الرواية منعرجات امتدت من دانيال ديفو، وصموئيل رجاردسون وهنري فيلدنك، إلى جين أوستن، وجالز ديكنز، حتى جورج إليوت. لكن، بين الشروع في تيار الوعي والحبكة غير المتعاقبة، وبين الواقعية الإنجليزية ثمة منطقة مهمة جدا، تلك التي دشّنها توماس هاردي وهنري جيمس حيث التخلص الجزئي من الوضوح التام، والتعاقب السردي، والمكافأة الشعرية والنهايات السعيدة. مع هاردي وجيمس، اختلفت الرواية الإنجليزية من ناحية المنظور واللغة والأسلوب قليلا عن فجر الرواية الإنجليزية. تلك المرحلة، تأخذ سمات الكتابة الخاصة بالرواد الأوائل وتتنبأ بما سيغلب على الرواية الحديثة من تجريب على يد وولف وجويس في ما بعد. برهان آخر على المسار التمهيدي لبعض المراحل الزمنية، ما يسمى بالتحقيب الإنجليزي، المدرسة الجورجية في الشعر الإنجليزي مع بدايات القرن العشرين، الواقعة بين الشعر الفيكتوري والشعر الحديث. هذه المناطق العتبية في تاريخ الأدب تشير إلى الفترة التي تحل فيها تغيرات وتحولات في الأساليب والموضوعات بين مرحلتين معينتين، إذ إنّ  هناك تعارضا وتناقضا مع مرحلة سابقة ومحاولة تجريب وابتكار في الأساليب الأدبية والتقنيات السردية والتوجهات الفنية التي تنتمي إلى المستقبل، فيكون ثمة جمع بين العناصر التقليدية والعناصر المبتكرة والحداثية في نصوص الفترة الانتقالية. وعليه، ثمة عصور تاريخية أو فترات زمنية، بسبب الزمان والمكان،  لا يمكن لها إلا أن تصبح ممرا وتمهيدا لتحول كبير يحمل في طياته رؤى جديدة. هذه المراحل لا توجد اعتباطا، إذ إنّ الماء في الكأس لا يفيض على جانبيه إلا بعد أن يمتلئ. 

وبالرغم من أن المراحل التي استشهدنا بها هي أمثلة محصورة بالماضي؛ إلا أن ثمة مراحل أخرى تمثل الحاضر، فبضعة من السنين، التي انتقلت من عصر التفاز والراديو إلى الحاسوب والشبكة العنكبوتية، هي مرحلة اهتزاز للوجود الإنساني، أقصى ما يمكن للإنسان الذي يعيش خلالها أن يمهد للإنسان القادم. بمعنى أنه ستكون لفلسفاتنا وعلومنا وتقنياتنا وآدابنا فعل التوطئة لشيء أكبر في المستقبل. ستكون عبقريات زمننا الانتقالي هذا مجرد ما يوضع قبل باب الدخول، تلك القطعة من القماش السميك التي نفرغ عليها طين وتراب الطريق لكي لا يتوسخ البيت الكوني. نحن الآن في مرحلتنا الانتقالية نتنبه إلى أشياء لم يتنبه إليها أسلافنا وسيتجاوزها أخلافنا. يصدق ذلك على القيم الأخلاقية والمبادئ الفكرية، مثلما يصدق على الأساليب الأدبية وطرق تأدية المعنى التي ستستنفد طاقتها وتنتهي لتولد قيم ومبادئ أخرى. سنستهلك الإشكالات المعرفية التقليدية، التي نعتبرها ما بعد حداثية، لتولد أشكال معرفية لم نكن قادرين على تصورها. فإلى ما قبل الذكاء الاصطناعي، ثمة تشابهات عدة في الفكر البشري، لا تنافسها في الاختلاف إلا التكنولوجيا الحديثة المقترنة بالشبكة العنكبوتية وتقنياتها المصاحبة. لكن اختلاف التكنولوجيا القادمة ما بعد الذكاء الاصطناعي عن التكنولوجيا المعاصرة، هو الذي سيحيل عصرنا إلى مرحلة تكنولوجية تصديرية، بحيث نسمع ونقرأ عن الإنسان الرقمي أو الإنسان الاصطناعي. التقنيات القادمة ستبتلع المعرفة والإبداع، وما نحن في المستقبل الأدبي إلا ممهدون لشيء قادم، فقد انتهى قبلنا عصر يعتمد اليد والحركة الفيزيقية وانتقلنا إلى عصر آخر يعتمد التقنيات المذهلة والحركة التجريدية، وكل شيء رهين بمديات شاسعة يدشنها الذكاء الاصطناعي.