العلمانيَّة وما بعد العلمانيَّة

ثقافة 2024/04/24
...





د. طه ياسين




العلمانية هي مقولة حديثة مركزية الهدف منها هو التنظير لواقع مغايرلـ”الديني” وفهم هذا الواقع وتجربته, وتفهم العلمانية على أنها تحرر للعلماني (الدنيوي) من قبضة المؤسسات الأكليريكية والمعايير الدينية, والعلمنة توصف بأنها اضمحلال المعتقدات والممارسات الدينية من المجتمعات الحديثة, وهي تفترض أنها سيرورة تقدم بشري كونية.

هذا وصف مختصر للعلمانية, وقد أخذت حقها في البحث والتنظير من قبل المفكرين غربيين كانوا أم عرباً, لكن ما يهمنا هنا هو مصطلح جديد يظهر على الساحة الفكرية وهو” ما بعد العلمانية” لكن قبل أن نتعرف على هذا المصطلح سنعمل  مراجعة بسيطة للما بعديات التي مرت على الفكر الإنساني قبل الما بعد علمانية.



ما بعد الحداثة: وهو مصطلح جاء يفرض نفسه بعد مصطلح الحداثة بغض النظر عن كونها عصر: وما بعد الحداثة يمكن لنا القول بأنها حركة فكرية واسعة نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين، كرد فعل على ادعاءات المعرفة القديمة المنتهية والمرتبطة بحداثة عصر النهضة، ويمكن فهم ما بعد الحداثة على أنها رد فعل على الحداثة، في أعقاب الدمار الذي لحق بالفاشية والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، حيث أصبح العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا لا يثقون في الحداثة، رغم أن الحداثة كانت ترتبط في كثير من الأحيان بالهوية والوحدة والسلطة واليقين وما إلى ذلك، في حين أن ما بعد الحداثة كثيراً ما ترتبط بالفروق والانفصال والنصية والتشكيك، ويعرفها جان فرنسوا ليوتار بأنها: تشكيكاً موجهاً نحو كافة الادعاءات الكبرى في الحياة.

ما بعد البنيوية: وهذه جاءت بعد البنيوية، وهي تسمية وضعها أكاديميون أمريكيون للدلالة على أعمال غير متجانسة لمفكرين فرنسيين في العقد السادس والسابع من القرن العشرين، حيث تشكك ما بعد البنيوية في إمكانية إجراء دراسة حقيقية للإنسان أو الطبيعة البشرية، وقد ظهرت ما بعد البنيوية كاستجابة للبنيوية التي ظهرت في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، والتي ترى بأن الثقافة الإنسانية يمكن فهمها عن طريق الوسائل البنيوية على غرار اللغة، والتي يمكن أن تميز بين تنظيم الواقع وتنظيم الأفكار والخيال.

ما بعد التفكيكية: وهذه جاءت بعد التفكيكية التي هي أسلوب فهم العلاقة بين النص والمعنى، وطبقاً لجاك دريدا فإن اللغة كنظام من الإشارات والكلمات لها معنى فقط بسبب الاختلاف والتباين بين هذه الإشارات، فإن للكلمات معان فقط بسبب تأثير التباين مع الكلمات الأخرى، لذلك فإن المعنى لا يكون موجوداً أبداً ولكنه يُحول إلى إشارات أخرى، ويشير دريدا إلى الاعتقاد بأن هناك معنى كاف ذاتياً، غير مُحول بأنه ما وراء الوجود، بالتالي فإن المفهوم لابد من فهمه في سياق ضده، مثل الكون والعدم.

والتفكيكية بأسلوبها هذا تنطلق من خلال التشكيك في العلم لينتقل بعدها التشكيك في كل شيء، حيث شككت في العلاقة القائمة بين الدال والمدلول، وما بعد التفكيكية تنظر إلى التفكيكية على أنها منهج خطير في النقد ذلك لأنها تنطلق من زعزعت الاستقرار في كل يقين، ولابد من العودة إلى اليقين والاستقرار. 

يتضح مما سبق أن العامل المشترك الذي يجمع الما بعديات هو الشك في ما يطرحه الما قبل ويأتي الما بعد كضرورة للتقويم، وما يهمنا هنا هو مصطلح “ ما بعد العلمانية” والذي ظهر بعد العلمانية فهل عامل الشك هو ما دفع لظهور” ما بعد العلمانية”؟ اعتقد ومن خلال المعطيات التي لدي بأن عامل الشك أيضاً يشترك في ظهور مصطلح “ ما بعد العلمانية”، لكن لنتعرف أولاً وقبل كل شيء على هذا المصطلح.

تشير عبارة” ما بعد العلمانية” إلى مصطلح حديث الولادة في المجتمع الغربي، وقد دارت حوله مطارحات. خلال العقد الأول من القرن الجاري، وهذا المصطلح لا يزال في طوره الابتدائي. 

بل يجوز القول إن كل ما حفلت بها حلقات التفكير حول خصائص وسمات منظومة ما بعد الحداثة، قد شهدت غياباً لافتاً لهذه العبارة، وربما لهذا السبب لم تتحول” ما بعد العلمانية” إلى مفهوم تام القوام.

من الضروري أولاً أن ننتبه إلى مشكلة صارت مألوفة في التعامل من المفاهيم المستحدثة، فالذي حصل  في الغالب كان أشبه بانزلاقات عجولة من طرف النخب شرقاً وغرباً خصوصاً أولئك الذين أخذوا بناصية المفاهيم على غير هدى، في محاذاة” ما بعد العلمانية” ومحاكاتها، نرانا أمام شائعة نبتت على حين فجأة وسط زمن مكتظ بالالتباسات، لذا سنكون على حذر ونحن بإزاء مركب معرفي جديد لم تكتمل عناصره النظرية بعد.

شأن سواها من المفاهيم التي أدخلتها الحداثة الفائضة في سجل المابعديات فقد وقعت ما بعد العلمانية في مأزق دلالي مصحوب بارتباك اصطلاحي شديد، لقد جرى حملها كنظائر السابقات على غير محمل وشرح وقصد، تارة على مستوى دلالة اللفظ، وطوراً على مستوى دلالة المعنى والمحتوى، ولكن في أغلب الأحيان شاع حملها على محمل النهايات، أي نهاية ظاهرة ثقافية وولادة أخرى على أنقاضها، وهذا ليس بمستغرب ما دام الحديث عن أفول وقيامة المفاهيم هو أدنى إلى تقليد راسخ في حياة الغرب وثقافته، وقد أسلفنا القول في ذلك.

إن حال الأحداث في التاريخ كحال المفاهيم، هي منه وهي منها، ذلك بأن كل مفهوم ينشأ، لن يكون خارج الحدث والشروط الحاكمة على الفكر الذي ينتجه، المفاهيم أدوات معيارية للتعرف على الأحداث وفهمها، الحدث والفكر متلازمان ولا ينفك عقدهما أبداً ينشئان للمفهوم محرابه في عالم الفكر، ثم يعود التفكير من بعد أن أضحى في قلب الحدث ليقيمه على نشأة أخرى.

تبين المعطيات أن المراجع التأسيسية لمصطلح” ما بعد العلمانية” تنحصر في أعمال بحثية صدرت بعد العام (2010)، وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمرات خصصت لتظهر هذه القضية في مقدم الأفكار والنظريات التي استندت إليها تلك الأعمال هي ما اشتغل عليه عدد من المفكرين وعلماء الاجتماع في مقدمتهم الفيلسوف الألماني يورغن هابر ماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر، وعالم الانثروبولوجيا من أصل اسباني خوسية كازانوفا، وهناك جمع من الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي ممن أسهموا بصورة مباشرة وغير مباشرة في تسييل الكلام على فكرة” ما بعد العلمانية” وقد كان للألماني هابرماس ورفيقه تايلور على وجه الخصوص مجهود مميز في التأسيس لنقاش جدي بصددها.

ومن أبرز الأفكار التي شكلت خطوط الجاذبية في هذا النقاش، حديثهما عن عالم ما بعد علماني أخذت معالمه تظهر في المجتمعات الحديثة، وهو الأمر الذي ولد احتداماً فكرياً غير مألوف مؤداه: أن العصر العلماني قد بلغ منتهاه، وأن العالم الأوروبي المعاصر دخل في واقع جديد لم يعد فيه الكلام على العلمانية بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

وهذا حدث بعد فرضية هابرماس القائلة أن “ العالم الأوروبي بات يعيش في مجتمع بعد علماني” وقد نظمت الكثير من المؤتمرات والمنتديات تمحورت حول جدوى الاستمرار في التنظير للعلمانية باعتبارها الحل الأمثل للمجتمعات الغربية المعاصر، بل وحتى العربية المعاصرة.

ففي الثالث والرابع من نيسان 2009، عُقد مؤتمر في جامعة هارفرد تحت عنوان” استكشاف الما بعد علماني”، وبعد سنة واحدة جرى عقد مؤتمر آخر في كلية العلوم الدينية في جامعة واشنطن سانت لويس تحت عنوان” النقاش حول العلمانية في عالم ما بعد علماني”، هذا بالإضافة إلى مؤتمر ثالث انعقد في جامعة بولونيا بعنوان” السياسة والثقافة في المجتمع الما بعد علماني” عام 2011.

وهذه المؤتمرات كانت تتحرى ما يمكن وصفه بالثنائية الضدية بين العلمنة والدين، إذ لم يكن للعلمانية أن تتحول إلى سلطة تاريخية صارمة، لو لم تجعل من الدين نقيضاً وجودياً لها هذا في العالم الغربي، أما بالنسبة للعالم الإسلامي العربي فقد حاول علمنة الدين بل وحتى علمنة الوحي لمجرد قبول العلمانية في العالم الإسلامي، وعليه يستحيل الكلام على العلمنة في التجربة التاريخية لحداثة الغرب بمعزل عن الدين، بالتالي فإن الحديث اليوم عن عودة الدين كمنظومة قيم إيمانية ومجتمعية إنما يعكس مكانته الجوهرية في إعادة تشكيل الحضارة المعاصرة وهذا ما تبحث عنه الما بعد علمانية.

فالما بعد علمانية تتوضح من خلال الحركة النشطة التي ظهرت في المراجعات والنقد والشك التي سادت الوسط الفكري العلماني ودعت إلى رؤية جديدة تتجاوز التناقض الحاد بين ما هو ديني وما هو دنيوي، ويمكن تعريف المصطلح – الما بعد علماني- “بوصفه حالة وعي معاصر تتعايش فيه الرؤى الكونية للدين مع الرؤى العلمانية للكون”، وهذا التعريف يعود للأمريكي بيتر بيرغر، ويقول الأخير أيضاً” مثلما استهلت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها المشهورة (إزالة السحر عن العالم)، افتتحت ما بعد العلمانية مسارها بمقولة معاكسة هي( إزالة العلمنة عن العالم) “، وبصرف النظر عما إذا كان بيرغر رفع شعار الإزالة كستراتيجية للتطبيق، أو كتوصيف لواقع مجتمعات ما بعد الحداثة، فإن هذه المقولة تبقى مشوبة بالغموض باستخدامه كلمة( السحر) فالعلمانية إزاحة الدين، فالسحر هنا يساوي الدين، وبنفس هو يسعى لإزاحة العلمنة، ويدعو إلى الما بعد علمنة، وهذه الأخيرة ترحب بعودة الدين والمساواة بين الدين والكون، فهذا تناقض صارخ عند بيرغر.

من خلال ما تقدم اعتقد بأنه قد أصبح واضحاً، المفهوم من مصطلح الما بعد علمانية، لكن ما يهمنا هنا هو الموقف الإسلامي العربي والذي هو لحد هذه اللحظة يحاول الترويج لقبول العلمانية في العالم الإسلامي العربي وهو منقسم بين رافض وبين قابل للعلمانية، والقابلون للعلمانية من أمثال أركون وحسن حنفي وغيرهم ممن ينتمون لهذا التيار قد عملوا على علمنة الدين وتحديثه ليكون غير متعارض مع العلمانية، واعتقد أنهم كانوا موفقين في مسألة التحديث-تحديث الدين-، لكن مع هذا التسارع في الفكر الغربي الذي هو على مسافة قريبة من الانتهاء من عصر العلمانية وطرح الما بعد علمانية التي تسعى لعودة الدين ماذا سيكون موقف الحداثويون؟ على اعتبار أن الما بعد علمانية ستكون تأييد لما طرحه الأصوليون الذين كانوا في الضد من كل ما طرحه الحداثويون.