الجبل الحر

ثقافة 2024/04/24
...

 

 ناصر قوطي



  كان اللاجئ الجديد  يحمل زوّادته،بقايا صرّة من بلاد فقدها  في البحر. حين منحوه سكناً في تلك القرية,, غرفة ضيقة بنافذة أشد ضيقاً من فرجة تابوت، فرح كثيراً تفحَّص الجدران  رمادية كانت.. لابأس.. همس في ذات نفسه.

 “هل فكرت ملياً قبل أن تقدم على فعلتك تلك .. أتفحَّصت الآماد في لوحتك  الأخيرة، لِمَ هذا التردد،لِمَ لَمْ تكملها وأنت الغارق في تفاصيلها”.

خطى بضع خطوات تجاه النافذة،وأزاح ستاراً قديماً فانهال الغبار على فروة رأسه الرمادية،،نظراته الكليلة التي اتجهت صوب السماء..سماء..لا ترشح إلا بضع غيمات رمادية مبعثرة تحاول اللحاق برفيقاتها، وسرب غربان تتقاذفه  الريح لاأكثر.لملم أفكاره الشاردة وتقهقر ثانية ليُمعن النظر في اللوحة.بضع لطخات من أزرق “الكوبالت” مع مسحة من الأبيض، سيرى الناظر سماء  أقرب إلى الحقيقة.

رضع ماتبقى من عقب سيجارته وراح ينفث دخانها على سطح اللوحة. استرجع كل تفاصيل حياته ثم همس ثانية”حتماً سترى سماء رائقة  فوق رأس الحصان”.

نهر بعيد يتلوَّى كمداً،رصاصياً،يتعرَّج بقتامة خبث رصاص متفحِّم،ينأى بعيداً ,,النهر..،يجتاز خاصرة الحصان ..زمن يتراجع..زمن الحصان الذي خذلته المسافات.. زمن راكد يذوب على أعشاب ناتئة، ينبثق من بين شجيرات لم يرها من قبل،  أوراق ألوانها تتصادى بين البنفسجي والبرتقالي ،أوراق بلون الثلج، بلون الزعفران.بلون سماوات مفترضة زهور تشرئب بأعناقها من بين القبور المزدانة بنصب وتماثيل ملائكة أكفُّها تتوسل، تستجدي السماء رحمة فقدت على هذه الغبراء. لطخات بنية من بقايا براز كلاب في كل مكان لم يغمرها الثلج، برار بيض شاسعة على مدى البصر تنفرش على سطح القماشة،فيما ضوء أصفر باهت يتلاشى مع آخر شعرة من ذيله_ذيل الحصان_ الصامت عند سفح الجبل,الذي تلاشى هو الآخر في أفق رمادي.للمرة الألف وذات السؤال يطرق رأسه:

 “حددخطوطك..خطواتك.أخطائك. خيباتك..ليلتئم جرح اللوحة، جرحك الأزلي،فأنت وحدك من أقدم على ارتكاب هذا الخطأ الفادح،  بل من ارتكب هذه الجريمة.فَلِمَ تحنط حصاناً على خرقة قماش وتسجنه،دعه يعدو في البراري الشاسعة. الأدهى من ذلك أنك نسيت _إثر خيباتك الممتالية_أن ترسم له حدوات وقوائم ليتسنّى له عبور تلك الوهاد الشاسعة والمستنقعات الآسنة.فكيف طاوعتك روحك أن تتخلى عنه. أن تتركه في هذا الغمر. أن تدعه يغطس في بركة أشد لزوجة ووحلاً من البرك التي اجتزتها،كيف.كيف لم ينتبه الحصان إلى موطئ أقدامه ومواطن عثراته وإخفاقاته التي مر بها وهو يعبر الأصقاع والضفاف المطحلبة الفاسدة، ليسقط في وحل أكثر نتانة ولزوجة من الأسطبل القديم.الأسطبل الذي لمّا يزل يغرز إبر أعشابه في روحك، الأعشاب المرسومة بدقة متناهية على سطح القماشة.يبدو ألا منقذ ولامكان أو مساحة تتسع لروحك.. رحلتك غير موفقة كانت أيها الحصان العجوز، فها أنت ذا تعيد مأساة “دون كيخوته” لأنك جئت في الزمن الخطأ والمكان الخطأ.هكذا إذن فلتدع الحصان كما هو فلاتبتأس”

 همس بذلك وتقهقر باتجاه النافذة ونظر نظرته الأخيرة عِبرها. كان الثلج ينهمر بغزارة، يكفِّن الشارع والبيوت المنحنية الشائخة ،المقابر،الملائكة الحجرية براحاتها الباردة، والغربان لمّا تزل ترقص رقصتها بين رذاذ الثلج ،تتلاشى عند آخر بقعة رمادية،آخر غيمة رسمتها عند تخوم السماء. حين غادر الرسام تلك النافذة، ترك لوحته غير أنها ظلت _اللوحة_ معلقة لسنوات ست دون أن ينتبه لها أحد. في فجر يوم ما،يوم عاصف وبارد آخر، لم يجد اللاجئ الجديد وهو يلج غرفة  الرسام، إلا إطاراً خشبياً قديماً نخره السوس وقماشة استحالت إلى رماد، قد علقت على جدار غرفة ضيقة كما لوكانت  زنزانة،انتزعه بعجالة  وألقاه في الحاوية.غير أنه رأى شبحاً على الجدار، ظلال باهتة من صورة حصان هارب  وبقايا وهاد شاسعة وقمة جبل شاحب،ملامح  انطبعت على الجدار، فكر.. مر كثيرون هنا  وناموا بين هذه الوهاد، في هذه الغرفة بل ماتوا في هذا الأسطبل..  وعلي أن أعيد مشهد اللوحة ، وبقلم رصاص  عثر عليه عند حافة النافذة، حاول أن يعيد مشهد تلك اللوحة كانت قوائم الحصان غير بادية للعيان،أعاد الكرة مرة أخرى ورسم بطريقة فجَّة ومرتبكة قوائم للحصان، غير أنها جاءت أقرب ماتكون إلى قوائم لحمار، كان سعيداً في إنجاز اللوحة، لوحته. 

لم يعرف اللاجئ الجديد أنه رمى الحصان والجبل  في تلك الحاوية التي سيسقط فيها.في تلك القارة العجوز الباردة التي تحتضن قرية تدعى الجبل الحر”فرايبرك”.