المحسوسات وصورة العقل البشري:
ميثم الخزرجي
إن الاستقراء المعرفي الذي اتخذته الفلسفات على اختلاف مناهجها، منذ نشأتها الإغريقية وما بعدها مروراً بمدارس عصر التنوير، هو تحليل البنى الفكرية والأخلاقية والسوسيولجية التي تكوّن صيرورة الإنسان وتفكيك محتواها على وفق معايير خارجة عن الحتميات التي تبيد الشك وتنهي غرضه، غير أن استعادة طرح هذه المفاهيم تأتي عن طريق رؤية ناجمة عن خلاصة بحثية يتبناها الفيلسوف نفسه، وقد تخضع هذه الخلاصة إلى تشطير أو تهذيب في ما بعد، إمعانا باستحداث حراك جدلي له استنتاجاته العلمية المثمرة، ليتخطى هذا الحراك متبنيات التلميذ وأستاذه، كما حصل مع أفلاطون وتلميذه أرسطو, أو بين هيجل وماركس في تحديد الوحدة العضوية التي أسس الأخير عليها كتابه (رأس المال)، وعن تداعيات العلاقة بين العبد ومرؤوسه، أو بين الفلاسفة العقلانيين والتجريبيين حول طبيعة الفكرة الناشئة للكائن البشري، لتنتج عن طريق هذا الصراع الديالكتيكي مباحث تستكشف مستوى العمق الابستمولوجي، ولعلي أجد أن محور السؤال المركب عن طبيعة المعرفة ومساحتها داخل ذهن الإنسان، جاء عبر هذا الاحتدام، مستوفياً أصل المفاهيم الدائرة في هذا العالم، مثل الخير والشر وطبيعة العلاقات الإنسانية وما يترتب عليها من قيم اجتماعية، وغيرها من المزايا التي أحاطت بالمجتمعات، على الرغم من ذلك نجد أن فاعلية هذه الصفات ومنسوبها يتباينان بسبب طبيعة الأنساق الثقافية الخاصة بالكائن البشري، التي بدورها تعيّن قابليته على التقبّل أو الاستجابة أو الرفض، وطريقة التعاطي مع مخاضات الحياة، وهنا إشارة إلى ما تخطّه هذه الأنساق من طباع نفسية دالة على سلوكه وانفعالاته ومدى تأثره, كذلك ترسم الملامح العامة للفرد من حيث السحنة وفخامة الصوت واللهجة التي تشكل سياق الجملة.
بودي أن أتوقف عند ماهية نشأة الأفكار وصياغتها عند الإنسان، على وفق مناهج المعرفة ومقترحاتها الجدلية لبعض من الفلاسفة. واقعاً أن فلسفة أفلاطون جاءت عبر نظريته المشاعة في عالم المثل، التي ادعى فيها أن جميع الموجودات ما هي إلاّ ظلال لحقائق كامنة لا يدركها إلا العقل، لذا فإن العقل هو المحور الذي عن طريقه نستطيع أن نقرر طبيعة الأشياء ونستوعب محتواها الضمني، ولعلي أشير إلى المنطلق الذي يؤسس اعتبار الإنسان وتكوينه على أرض الواقع، وقد نوّه أيضا بأن معيار الحقيقة ناتج عن استيفاء العقل غرضه من قيمة الموجودات واستقصاء مخرجاتها، ليكون هو الدال الوحيد على إعطاء صورة حية لا تقبل الشك، وهنا تبيان واضح للمنظومة المعنية بفلسفته ومضمونها الجدلي الذي ورثه من أستاذه سقراط ودوّن محتواه في جمهوريته، ليؤسس منهجاً عقلانياً خالصاً عماده الجدل القائم على اعتبارية ردود الآخر، لذا فإن إثارة العقل للوصول إلى المعيار الأسمى لطبيعة الأسئلة المحيطة بالإنسان، هي المسار الذي يتخذه أفلاطون ليظهر لديه منسوب الوعي الذي يتحلى به الفرد عن طريق الأجوبة التي يتلقاها متخذا منها سلوكا حياتيا، يقوّم المجتمع في كيفية التعاطي مع مجريات الواقع، ليسير على هذا النهج عدد من الفلاسفة الذين أعطوا قدراً عالياً لقيمة العقل وجوهره في تحديد الأولويات التي تعنى بالبشرية، وقد خطَّ كانط مشواره في نظرية المعرفة على وفق الأدلة العقلانية، مستنتجاً صحة البرهان ودلالته عبر التفكير القائم على تحليل مضامين الأسئلة الدائرة في هذا العالم والمفاهيم السائرة مع الإنسان، وعلى نحو متصل نشير إلى عصمة الآراء التي تمرر عن طريق العقل ومدى إجازة مقرراتها وتأثير نتائجها في الواقع، لنوكل اهتماما كبيراً إلى السياق الذي يدخره المتوارث والحتمي الذي يرفضه أصحاب هذا المنهج تبعاً لمعطيات منطقية تعنى برؤاهم، فنخلص إلى القول إن الحقائق العامة بما تتضمنه من مقترحات فطرية كانت أم استقرائية، لها مقاصدها التي لا تثبت مقبوليتها إلا عن طريق العقل. على الرغم من ذلك نلاحظ أن كانط انقلب على منهجيته العقلانية وتراجع في كتابه (نقد العقل المحض) معتبراً أن العقل لا يستطيع أن يستوعب المقدّرات جميعها، وأن التجربة هي المقوّم الأساسي للمعرفة، مانحاً لها الدور الرئيس والفاعلية الحقة التي تلعب دوراً في فهم مستحدثات العالم وقضاياه الكبرى.
أما في ما يخص أصحاب المنهج التجريبي (لوك وبركلي وهيوم)، فقد ذهبوا إلى أن نظام الإنسان المفاهيمي يدار عن طريق إدراكاته الحسية، ولو استقرأنا مبحث هيوم الجدلي حول هذا المضمون، فسنرى أنّه تطرّف في مفهومه للمعرفة ونظرته إليها، مزاولاً معول الهدم حيال الفلسفات التي تبشر بالمنهج العقلاني، فقد أشار إلى أن الانطباع هو الحقيقة المثلى التي عن طريقها نتعرف على الموجودات، وما العقل إلا وهم عظيم قاصر عن معرفة استدلال الحقائق، ليكون فهمنا للما حول والعالم والكون بعموميته، عبر المحسوسات، أما بخصوص المشاعر التي تنتج من جرّاء حدث معين، فهي نتائج التكرار أو التجربة التي أظهرت هذا التصرف، وأن ردود الأفعال لا ترتبط بالضرورة العقلية، بل حتى الظواهر الطبيعة التي احتلت ذهن الكائن البشري جاءت معرفتنا بها عن طريق العادة ليصبح حضورها مقترناً بنسق نفسي له مضمراته، وقد تناول ذلك في كتابه (تحقيقٌ في الذهن البشري) حول تناوب الأفكار المبيتة عند الإنسان، معتبرا أن الذهن هو الذي قرر حقيقتها فتصبح من المسلمات. لنأخذ على سبيل المثال ظهور الشمس صباحاً والقمر مساء، وكذلك ملامح اليوم بتعاقب فتراته الزمنية كلها - يقول هيوم - خبرتها العادة وأصّلتها الحواس لتمكننا من استجابة صورتها، أما في ما يخص طبيعة الأفكار التي نمنحها للعامة عبر تعرضنا لمواقف إنسانية، فجميعها مستقاة من انطباعاتنا الأولى التي تتوافد عبر إدراكاتنا الحسية، وهذا دحض واضح لمفهوم السببية الذي جاء عن طريق المنطق العقلاني كما ادعى أصحابه العقلانيون، فقد أكدوا وجوب الضرورة الحاصلة بين السبب والنتيجة، بينما فنّد هيوم هذه العلاقة عبر المسوغ الذي طرحه قائلاً، إن الرابط الوحيد بينهما هو الصلة التي أتت عن طريق الحواس المرتبطة ارتباطاً فعلياً بهاجس الفكرة وطبيعة تنشئتها، وما العقل سوى صور حسية لمجريات الواقع ومآلاته الكثيرة.
اعتبر هيوم أن الطبيعة البشرية بمدونتها الإنسانية وأفكارها الدائرة، قائمة على مجموعة الحواس المدركة للمحيط الخارجي، ليأتي الاعتبار الذي يؤسس عليه الإنسان غرضه وتسيير حياته عبر سلسلة من التجارب التي تؤهله إلى اتخاذ القرار، وبالتالي فإن مفاد هذه التجارب متسق مع نتائج الأحداث التي يتعرض لها، وتصرفاته الحياتية التي يقوم بها عبارة عن منوال لأثر سابق، مصرّا في نظريته على أن العقل لا يستطيع حيازة المساحة الجدلية لتلك النتائج الكونية العظيمة من دون الرجوع إلى الحواس، بل لا يستطيع البرهنة على معرفة الحقائق، وهذا تبيان لمنطق السببية لدى هيوم الذي جرده من الضرورة المحتكمة إلى المعيار العقلي، رافعا عنها سمة الدليل القطعي الذي يفضي إلى حقيقة لا مناص من مواجهتها على الإطلاق.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة