عادل الصويري
مع الحديث عن تراجع دور الشعر في الحياة كجزءٍ من تراجع علم الكلام، أمام الصعود الانفجاري للتكنولوجيا؛ ليضع الكلام الشعري في خانة التاريخ القديم؛ تبدو العودة منطقيَّة إلى ما قاله الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث حول علاقة الشعر بالتاريخ، إذ رأى أنَّ أي قصيدة تمثل مسعى للتصالح بين الشعر والتاريخ، على نحوٍ لا يخضع له، بل يقدمه برؤية جديدة، وينشد "التملص من طغيان التاريخ" على حد تعبير الشاعر المكسيكي؛ لإعادة شكل العلاقة بين الإنسان والتاريخ، وتحديثها، من علاقة العبوديَّة والتبعيَّة شبه المطلقة، إلى علاقة الحوار الشاعري والإصغاء المنتج. يقول (باث): "فإذا كنّا نحن شخصيات التاريخ الوحيدين، فنحن أيضاً مادته الخام وضحاياه؛ فالتاريخ لا يتحقق إلاّ على حسابنا. الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييراً جذرياً؛ فهو يتحقق على حساب التاريخ".
والشعر الذي يقصده (باث) متحققاً على حساب التاريخ، هو الشعر الذي يغير في طبيعة التاريخ، كأنه صور يُنفخ لقيامة الرؤية، واللغة هي التي تقوم بفعل النفخ بعد اندلاع الشعر في جسدها، فيتحول التاريخ من مجرد أحداث حدثت في الماضي، إلى غليان ملموس بعد توحد الشاعر مع كلماته.
هل الشعر وحده يفعل ذلك؟ ربما، لكن ليس على سبيل الجزم، خصوصاً مع تطور الأساليب الكتابية الأخرى. الرواية الحديثة التي تتقدم الآن هي رواية شعرية بامتياز، تعتمد على الصورة المتخيلة والمفارقة والمخاتلة وتداخل الأزمنة والأحداث التاريخية داخل الحكاية الواحدة، كما أن توجه بعض الشعراء لكتابة الرواية؛ أضاف للمشهد السردي قوة كبيرة، وارتقى به من خلال مهارة التعامل مع اللغة، وإنتاج المشاهد السردية تخيُّلاً وواقعاً واستدعاءً
للتاريخ.
ثمة نسق عربي كان يُحرض أوكتافيو باث للدفاع عن العلاقة بين الشعر والتاريخ، إذ أكد في أكثر من مقابلة صحفية اهتمامه بكتاب ألف ليلة وليلة الذي يعتقده أهم كتب البشرية إثارة للدهشة، فانعكست الثقافة العربية والإسلامية على تجربته وشخصيته، حتى أنه ذكر في إحدى المقابلات أنَّ بطل طفولته ليس إسبانياً أو مكسيكياً، بل كان عبد الرحمن الداخل، وأنَّ قراءاته للشعر العربي توالت بعد أن قرأ الشعر الأندلسي.
أما البعد النفسي الذي كان يستفز (باث) لترسيخ العلاقة الشعرية التاريخية، فهو رحيل شعراء مهمين من أمريكا اللاتينية عاشوا وماتوا في أوروبا من دون أن يلتفت لهم أحدٌ من أمثال البيروفي أوثيسار باييخو، وهو ما جعله يذكر أن الأمريكي اللاتيني عاش على حافة التاريخ، بينما يريد له، ولأي شاعر بطبيعة الحال أنْ يكون في قلب التاريخ معيداً إنتاجه بما يراه مزاجه الشاعري، من دون أن يتخلى عن خصوصيته، حتى مع اندماجه بالحالة الكونية، مبدياً في هذا الصدد إعجابه بالشاعر والمفكر السوري أدونيس الذي اعتبره الأكثر حميمية من أصدقائه العرب، كما رآه أهم شعراء نهاية القرن العشرين.
الشعر عند أوكتافيو باث يعني مغادرة اللحظة، والسفر إلى الأماكن القصية؛ ليُطِلَّ منها على مناخات مختلفة وعوالم جديدة. هذا السفر هو السبب الرئيس الذي يجعل الحاجة إلى الشعر ضرورية في الحياة، طالما اقترب من الفلسفة، واستفز الفكر لتغذيته بشكلٍ يوازي تغذيته للصور والبلاغة، إنْ لم نقل بشكل أكبر؛ لأنَّ ارتهان الشعر إلى الأساليب البلاغية والتصويرية؛ يعني مكوثه في الهشاشة والخوف من أي طريقة للتفكير، بينما القصيدة الحقيقيَّة هي التي تكسر حواجز الخوف، وتحرض على المغامرة، وترى الحميمية بين الأشياء، فتكون حلقة اتصال الكلمات بالجسد والروح، لا التي تجعل الشاعر قابعاً في خوفه ورعبه من الاقتراب من مناطق الكشف، إذ إنَّ الكشف الذي يقدمه الشعر يمثل ملاذاً، وطوقَ نجاة للإنسان في متاهته الوجودية الشاسعة.