الشِّعرُ.. تأمّلٌ ما بينَ العَالمِ والكائن

ثقافة 2024/04/25
...

  طالب عبد العزيز

على الرغم من كونه شاعراً فرنسياً إلا أنني أعد صلاح ستيتية (1929 ــ 2020) واحداً من أهم الشعراء العرب، الذين خلصوا إلى فهم الشعر كما يجب، وقالوا  بجوهره، وأهمية وجوده في الحياة، بعيداً عن الاستعراض الفج، والتنطع بالتسميات والاغراض، كما نقرأ عند البعض، إنما كما نفهمه وندركه نحن.

ونقطع بأهميته كشاعر عربيٍّ كبير، لأنه تشبّع بالعربية لغةً وشعراً وتصوفاً، وظلَّ أميناً عليها حتى بعد أنْ تمكنت الفرنسية منه، وعُرفَ كواحد من شعرائها الكبار.
يقول الروائي شاكر نوري: بأنَّ ستيتيه "يرفض إعادة إنتاج العالم أو ترجمته فقط؛ لأنه يبحث أولاً عن صفائه، ولا يحتفظ منه إلا بجوهره في تأمّل ما بين الكائن والعالم". لكأنه يحيلنا إلى فلسفة هيدجر، وعلاقة الكائن بالوجود من خلال الشعر، واضعين نصب أعيننا ما كتبه هيدجر نفسه عن شعر هولدرلين وتراكل. لذا، أظنُّ أننا بحاجة ماسة إلى صوغ فهم جديد لا إلى تعريف الشعر-التي باتت بلا ضرورة ومعنى-  إنما إلى إعادة ترتيب أهميته في الحياة، أو لتأمل العلاقة بين (الكائن)  - بافتراضِ قصده متلقي الشعر - والعالم، هذه العلاقة التي تغيب عن الكثير من منتجي الشعر (الشعراء) والتي بدونها لن يتحقق الغرض من الشعر ذاته.  لا جديد في قولنا بأنّه، في ثقافات الامم الاخرى لم يعد تعاطي الشعر كالذي نلمسه في مدارسنا والمجالس العامة والخاصة أو كالذي نسمعه أو نقرأه في صفحات البعض، بوسائط التواصل الاجتماعي، وعلى هذه الفجاجة التي نسمعها في ما ينشر من مقاطع مختارة لشعراء (كبار) لا تذهب علاقتهم بالشعر أبعد من تسطيح الشعور بالذنب والهجاء والتفاخر والتأثير فيهم عبر نقد أو امتداح الظواهر الاجتماعية والسياسية، والتي لا علاقة لها بالشعر، الذي نبحث عنه ويكتبه الشعراء الحقيقيون، من مثل ستيتية الذي يعتقد بأنَّ الشعر خلاصة جهد إنساني عظيم بوصفه "محاولة للوصول إلى الاجابة عن جوهر الأسئلة الكبرى"، المعقودة بالوجود والمصائر الانسانية والنهايات الصعبة والمستحيلة، والتي منها (الحياة والموت والولادة والحب) الأسئلة التي لا إجابة عليها. ما يتعامل به متصفحو الوسائط تلك مع الجواهري ودرويش وأحمد مطر وسواهم لا علاقة له بالشعر، بقدر ما يسيء إلى الشعر ذاته. الشعر أكبر من أنْ يكون مكنسة وإن كانت لإزالة نظام تافه، أو حاكم فاسد.
وأهم من يعتقد بقدرة الشعر على التغيير بالمفهوم العام للتغيير، هو أصغر كأداة، لكنه أعظم في صناعة التحولات. في ثقافات الأمم الكبرى تمت مغادرة تسميات مثل الشاعر الكبير والعظيم والأوحد، وربما صار التعامل معها بوصفها شتيمة. "ليس هناك شعر كبير واضح" يقول ستيتية. وما يتعامل معه مستخدمو الميديا من الشعر واضح جداً، ويقول في مكان آخر "وضوح الشعر موضوع غامض، مثل وضوح الليل، هل ينفي الليل المظلم الوجودَ؟" إذا لم يرتق الشعر إلى الفهم العميق هذا ستنتفي الحاجة إلى كتابته وسماعه، وسيكون علينا التعامل معه مثل أيَّ نوع كتابي قابل للإهمال والاختفاء.  
تتعقد علاقة الكائن بالشعر والوجود بشكل مستمر، والشاعر بتصورنا المتواضع هو الذي يتعامل مع الشعر  كما يتعامل ناقل الماء في وعاء مسطح، فهو يحرص على أنْ لا تسقط قطرة منه، أما الشاعر الآخر فهو مثل الذي يتعامل مع ذات الماء بوعاء مربع مغلق، فهو مطمئن اليه، بسبب إحكام الغلق. يؤسفنا القول بأننا لا نريد أن نتصوره بوصفه ممارسة انسانية شخصية ومتطورة، مع يقيننا بأنه أبعد من هذه بكثير. في فيلم ضوء الشتاء winter light يقول القس للمرأة التي لم يعد يحبّها: "مع أنَّ الثلج يغطي كلّ شيء سأرى ما إذا كان في الموقد ثمة جمر ام لا!" هكذا، الشعر الحقيقي إحتراق مستمرٌ، لكنه لا يخلِّفُ رماداً، هو جمر متقد دائماً.
لم يكن اختيار هيدجر لهولدرلين في تبيان جوهر الشعر، لأنَّ الشعر لم يتحقق في غيره، أبداً، ولن يكون صلاح ستيتيه الشاعر الوحيد الذي يتحقق فيه تصورنا للشعر، أبداً، أيضاً، لكنْ هناك شعراء يقعِّدون الشعرَ مثلما يقعّدُ السياسيُّ الفشل، فهو لا يبحث في أسباب الخسارات، بينما الشاعر الحقيقي يفتح المُعجم وينثره، لترتجَّ فيه مباهج التكوين الجديد، فيما الشاعر المبحوث عنه في الميديا أمينٌ على مفاتيح سجن اللغة، وساهر على ايقاظ حراسها، لكنَّ الشاعر الحقيقي الذي نقصده هنا هو الذي يعبثُ بسلسلة المفاتيح تلك، وغير العابئ بما يساقط منها، وهو الباحثُ في الأسباب  أو كما يعبّر عنه هيدجر فهو "ضلال في متاهات تأمل الذات، وإغفال لامتلاء العالم" أليس هولدرلين هو الذي قال لنا: لكن، الذي يدوم يؤسسه الشعراء".