عباس حمزة .. وحشة الطريق

الصفحة الاخيرة 2024/04/25
...

د. طه جزاع

بعض الأشخاص تلتقيهم مرة، فيشعرونك أنّك التقيتهم مراراً، لقد وهبهم الله من السمات الشخصيَّة ما يجعلهم يدخلون إلى القلوب دفعة واحدة، مثلهم مثل نور يشرق على النفوس، فيأسرونك بحضورهم البهي، وكلامهم المشوّق، وابتسامتهم الرقيقة، وسلوكهم المهذّب، وخلقهم الرفيع. وكان عباس حمزة من أولئك الذين أحبّهم الله فمنحهم كل تلك الشمائل اللطيفة التي بقيت في ذاكرة أهله وأصدقائه وزملائه ومحبيه، بل وفي ذاكرة وإحساس كل من التقاه، ولو كان مجرد لقاء عابر على هامش برامجه في استوديوهات قناة العراقيَّة، وآخرها برنامجه الناجح "الطريق" الذي تركه بلا وداع ليصل وحيداً في عز شبابه وزخم عطائه إلى نهاية الطريق.
مطلع هذا الأسبوع الحادي والعشرين من نيسان، مرت الذكرى الأولى لغياب عباس حمزة الإعلامي البارع، ومقدم البرامج الثقافية المشوقة التي قدم فيها شخصيات متنوعة في مجالات العلم والفن والأدب والفلسفة والصحافة، بأسلوب جديد، وطريقة مُبتكرة، وأسئلة ذكية ومفاجئة يطرحها في الكثير من الأحيان على طريقة العصف الذهني الذي يحفز الضيف على الإجابة العفوية السريعة، من دون رتوش تجميليَّة، أو تزويق كلامي يأتي عادةً من التهيؤ والاستعداد للإجابة عن الأسئلة التقليديَّة في مثل هكذا برامج، وكانت هذه الطريقة التي تميز بها حمزة وبالأخص في برنامجه الأخير، قد بدأت مقدماتها في برامجه الأخرى التي قدمها على مدى خمسة عشر عاماً، ابتداءً من "قوافي" عام 2008، وانتهاءً بـ "الطريق"، ومن بينها برامج فرضت حضورها بقوة في مهرجانات ومسابقات عربيّة، مثل "حديث العمر" الذي حصل على جائزة الابداع في مونديال القاهرة للأعمال الفنيَّة والإعلام لعام 2013.
كانت الذكرى ثقيلة على قلوب محبيه المكلومة، ونفوسهم الحزينة، وعيونهم الدامعة، فقد حدث كل شيء بسرعة مذهلة وبلا مقدمات طويلة، حتى المرض جاءه مثل أسئلته سريعاً عاصفاً لم يمهله طويلاً، وبقي الاستوديو جاهزاً لعودته لكنّه لم يعد، وبقي مخرج البرنامج ومعه المصورون والفنيون جاهزين لتسجيل حلقة جديدة مع ضيف جديد من دون أن يصدقوا لحظة واحدة بأن صاحب "الطريق" قد تركهم يُهيئون لبرنامجه، فيما مضى هو في طريقه باسماً، وربما ساخراً من تلك الآجال التي تقطف الأرواح قبل أوانها، وكأنّها تمزح معها على طريقته في المزاح مع ضيوفه قبيل دخولهم إلى الاستوديو. كان يفعل ذلك ليبعث الاطمئنان في نفوسهم، ورفع خشيتهم وترددهم، والتخفيف من توترهم الذي قد ينتج عن قلقهم وهم يجلسون تحت الإضاءة الساطعة، والكاميرات التلفزيونيَّة، والاستعداد لمواجهة آلاف المشاهدين في ضيافته. وأذكر حين سجل حلقة معي قبل غيابه بأربعة أعوام، أنّه تحدث معي بأريحيَّة عالية، واسترخاء، وأخبرني أنّه يعرف عنّي أشياء كثيرة رغم أننا لم نلتقِ من قبل، بل ويعرف أغلب زملائي واصدقائي من باب الإحاطة الكاملة بحياة الضيف وعالمه ونتاجه، وفاجأني أثناء البث المباشر للحلقة باتصال مع الصديق العزيز الرائد الصحفي زيد الحلي الذي فوجئ هو أيضاً بمثل هذا الاتصال العفوي الذي لم يكن متهيئاً له.
وقبل أن ندخل الاستوديو كان يسمعني أغنية "آه منك يا هوى" لرضا الخياط، ويترنّم مبتسماً منتشياً بكلماتها ولحنها مع صوت المطرب: " آه منك من عذابك.. من سكوتك من عتابك.. نكبر وبعدك جديد.. آه منك يا هوى". ثم يدعوني بكلمات لطيفة للدخول إلى استوديو الطريق!.