كيفَ تبدو مشاعرُ الفردِ الفلسطيني؟
د. نادية هناوي
يشرح إدوارد سعيد في الفصل الثاني من كتابه (مسألة فلسطين) كيف كان للفلسفة دورها الخطير في الترويج للفكرة الاستعمارية التي تقول إن من حق الأوروبيين أن يحكموا غير الأوروبيين باسم العلم والتقدم. وصارت هذه الفكرة في القرن التاسع عشر هي الحاضنة للمطامع الاستيطانيّة للحركة الصهيونيّة.
وقد كشف إدوارد سعيد عن دور العلماء والمثقفين الأوروبيين في رسم صورة نمطيّة للغرب الاستعماري ومن هؤلاء العالم كارولوس لينيوس والناقد اللغوي فريدريك فون شليغل، والفيلسوف جون لوك والروائي جوزيف كونراد والسياسي جورج كليمنصو. واستحضر سعيد كثيرًا من النظريات والأعمال والتجارب التي رسَّخت الفكر الاستعماري، عارضا وجهة نظر ضحايا هذا الفكر وما سببه من حالات اضطهاد وتمييز عرقي، بها تعامل المستعمرون البيض مع السكان المحليين في بلدان الشرق كافة، والطريقة غير الشرعية التي بها نهبوا أراضيهم واستولوا على ثرواتهم بحجة التقدم والتجديد.
يقول إدوارد سعيد: (إن ثقافة التمييز القوية التي مثلها الصهاينة داخل فلسطين تقوم على اختفاء العنصر العربي في مقابل قيام الصهيونية - التي كانت مقتصرة على اليهود – وهنا لا بد لي من الاستطراد لأقول إن الصعوبة كبيرة اليوم في الكتابة عما حدث للعربي الفلسطيني من جراء الصهيونية التي حققت عددا من النجاحات. ليس هناك شك في ذهني، على سبيل المثال، أن معظم اليهود يعتبرون الصهيونية وإسرائيل حقائق ذات أهمية ملحة للحياة اليهودية، وخاصة بسبب ما حدث لليهود في القرن العشرين. علاوة على ذلك، تتمتع إسرائيل ببعض الإنجازات السياسيّة والثقافيّة، بصرف النظر عن نجاحاتها العسكريّة الجليَّة حتى وقت قريب. والأهم من ذلك، أن إسرائيل هي موضوع يمكن للإنسان الغربي، على العموم، أن يشعر بالإيجابيَّة تجاهه مع تحفظات أقل من أولئك الذين جرّبوا التفكير في العرب الذين هم في نهاية المطاف شرقيون غريبو الأطوار ومعادون. ومن المؤكد أن هذه حقيقة جليَّة لأي شخص يعيش في الغرب. وقد أنتجت النجاحات الصهيونيَّة مجتمعة وجهة نظر سائدة حول قضية فلسطين، والتي تكاد تكون منحازة للمنتصر بشكل كامل، ولا تكاد تأخذ أي اعتبار للضحية.
ولكن بماذا كان يشعر الضحية وهو يشاهد الصهاينة يصلون إلى فلسطين؟، وما رأيه وهو يشاهد الصهيونية تزيّف توصيفه اليوم؟، وكيف يواجه ذلك؟، هل يبحث في تاريخ الصهيونية كي يحدد جذورها، وأصول ممارساتها؟، هذه هي الأسئلة التي لا يتم طرحها أبدًا، وهي على وجه التحديد تلك التي أحاول طرحها والإجابة عليها هنا في هذا الفحص للروابط بين الصهيونية والإمبريالية الأوروبية. اهتمامي هو محاولة تسجيل تأثيرات الصهيونية على ضحاياها، وهذه التأثيرات لا يمكن دراستها جينالوجيا إلا في الإطار الذي قدمته الإمبريالية خلال القرن التاسع عشر عندما كانت الصهيونية لا تزال فكرة وليست دولة تسمى إسرائيل. بالنسبة الى الفلسطيني الذي يكتب الآن بشكل نقدي ليرى ما يعنيه تاريخه، والذي يحاول - كما أحاول الآن - أن يرى ما كانت عليه الصهيونية بالنسبة الى الفلسطينيين، فإن ملاحظة أنطونيو غرامشي ذات صلة بالموضوع، وهي أن "الوعي بما هو حقيقي يعني أن تعرف نفسك كمنتج للعملية التاريخية حتى الآن والتي أودعت فيك عددًا لا نهائيًا من الآثار، من دون ترك أي مخزونات. وتابع غرامشي قائلاً: إنَّ مهمة إنتاج الجرد هي ضرورة أولى، وهكذا يجب أن تكون الآن، ونادرًا ما يتم كشف "جرد" ما عاناه ضحايا الصهيونية "وليس المستفيدون منها" أمام الرأي العام.
إذا اعتدنا على التمييز الدقيق بين الأيديولوجية أو "النظرية" والممارسة، فسوف نكون أكثر دقة من الناحية التاريخيَّة وبشكل عفوي في حالة الإمبريالية الأوروبيَّة التي احتلت بالفعل معظم العالم خلال القرن التاسع عشر. لقد كانت الإمبريالية ولا تزال فلسفة سياسية هدفها وغاية وجودها هو التوسّع الإقليمي وإضفاء الشرعيّة عليه. ومع ذلك، فإنَّ التقليل الخطير من أهمية الإمبريالية يعني النظر إلى الأرض بطريقة تحريفيَّة للغاية.
إنَّ الظفر بالإمبراطورية والاحتفاظ بها يعني اكتساب المجال والاحتفاظ به، والذي يتضمن مجموعة متنوعة من العمليات، من بينها تشكيل منطقة، وتجميع سكانها، والسيطرة على أفكارها، وشعبها، وبالطبع أرضها وتحويل الناس والأرض والأفكار لأغراض التصميم الإمبراطوري المهيمن؛ كل هذا نتيجة القدرة على التعامل مع الواقع بشكل مناسب. ومن ثم فإنَّ التمييز بين الفكرة التي يشعر المرء بأنّها ملكه وقطعة الأرض التي يدعي المرء بحق أنها ملك له "على الرغم من وجود سكانها الأصليين العاملين على الأرض" هو في الواقع تمييز غير موجود، على الأقل في عالم الأرض وثقافة القرن التاسع عشر التي منها تطورت الإمبريالية.
إنَّ المطالبة بفكرة ما والمطالبة بإقليم ما في ضوء الفكرة السائدة بشكل غير عادي بأن العالم غير الأوروبي موجود من أجل أن تسيطر عليه أوروبا وتحتله وتحكمه، كانتا تعدان وجهين مختلفين بشكل أساس للنشاط التأسيسي نفسه الذي كانت له قوة العلم وهيبته وسلطته. علاوة على ذلك، فإنَّ في مجالات مثل علم الأحياء وفقه اللغة والجيولوجيا، كان الوعي العلمي في الأساس عبارة عن نشاط إعادة تشكيل وترميم وتحويل المجالات القديمة إلى مجالات جديدة، وهو الرابط بين الموقف العلمي والموقف الإمبريالي الصريح تجاه الأراضي البعيدة في الشرق. في ما يتعلق بـ "عدم المساواة" في العرق، كان كلا الموقفين يعتمدان على الإرادة الأوروبية، وعلى القوة الحاسمة اللازمة لتغيير الحقائق المربكة أو غير المجدية فعليا إلى مجموعة منظمة ومنضبطة من التصنيفات الجديدة المفيدة لأوروبا. وهكذا، في أعمال كارولوس لينيوس، وجورج بوفون، وجورج كوفييه، أصبحت الأجناس البيض مختلفة علميًا عن الأجناس الحمر والصفر والسود والبنية ومن ثم أصبحت الأراضي التي تشغلها تلك الأجناس أيضًا شاغرة حديثًا، ومفتوحة أمام المستعمرات والمستوطنات والتطويرات الغربية.
فضلًا عن ذلك، أصبحت الأعراق الأقل تساويًا مفيدة من خلال تحويلها إلى ما تدارسه العرق الأبيض وأصبح يفهمه كجزء من هيمنته العنصريَّة والثقافيَّة "كما هو الحال في جوزيف ديجوبينو وأوزوالد شبنجلر" أو في أعقاب دافع الاستعمار الصريح، تم استخدام هذه الأجناس الأقل أهمية بشكل مباشر في الإمبراطورية. عندما ذكر جورج كليمنصو في عام 1918 أنه يعتقد أن لديه "حقًا غير محدود في حشد قوات من السود للمساعدة في الدفاع عن الأراضي الفرنسية في أوروبا إذا تعرضت فرنسا لهجوم من ألمانيا في المستقبل"، كان يقول ذلك بموجب بعض الحقوق العلميَّة لفرنسا. كانت لديه المعرفة والقدرة على تحويل السود إلى ما وصفه ريموند بوانكاريه بأنّه شكل اقتصادي من الأسلحة للفرنسي الأبيض. بطبيعة الحال، لا يمكن إلقاء اللوم في الإمبريالية على العلم، ولكن ما ينبغي رؤيته هو السهولة النسبيَّة التي يمكن بها تشويه العلم وتحويله إلى تبرير للهيمنة الإمبراطوريَّة.
الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة التي كان هدفها الحقيقي هو السيطرة الاجتماعيَّة، هي من تصنيف علم اللغة. ومع اكتشاف التقارب البنيوي بين مجموعات أو عائلات اللغات من قبل لغويين مثل فرانز بوب، وويليام جونز، وفريدريك فون شليغل، بدأ أيضًا التوسيع غير المبرر لفكرة العائلات اللغوية وتحويلها إلى نظريات عن الأنماط البشريَّة التي تحدد الصفات العرقيَّة الثقافيَّة والعنصريَّة.
في عام 1808، على سبيل المثال، لاحظ شليغل وجود صدع واضح بين اللغات الهنديَّة الجرمانيَّة "أو الآريَّة" من ناحية، واللغات السامية الأفريقيَّة من ناحية أخرى. قال إنَّ الأول كان مبدعًا ومتجددًا وحيويًا وممتعًا من الناحية الجماليَّة. أما الأخيرة فميكانيكية في عملياتها، وغير متجددة، وسلبية. ومن هذا النوع من التمييز، ذهب شليجل، ولاحقًا رينان، إلى التعميم حول المسافة الكبيرة التي تفصل بين العقل الآري الأعلى والعقل والثقافة والمجتمع غير الآري الأدنى.
ربما يكون التشويه أو ترجمة العلم الأكثر فعالية إلى شيء يشبه الإدارة السياسية بشكل أكثر دقة قد حدث في المجال غير المتبلور الذي يجمع بين الفقه والفلسفة الاجتماعيّة والنظريّة السياسيّة.
بادئ ذي بدء، هناك تقليد مؤثر إلى حد ما في التجريبيّة الفلسفيّة "درسه هاري براكن مؤخرًا" يدعو بجديّة إلى نوع من التمييز العنصري الذي يقسّم النوع البشري إلى سلالات أقل وأكبر من الفئات البشريَّة. المشكلات الفعليَّة "في إنجلترا، بشكل رئيس" هي في التعامل مع 300 عام من الإمبراطورية الهنديَّة، فضلا عن الرحلات الاستكشافيّة الكثيرة التي جعلت من الممكن "علميًا" إظهار أنّ بعض الثقافات كانت متقدمة ومتحضرة، والبعض الآخر متخلّفة وغير متحضّرة، فضلًا عن المعنى الاجتماعي الدائم المنقول لحقيقة اللون "ومن ثمَّ العرق" من قبل فلاسفة مثل جون لوك وديفيد هيوم، جعل من البديهي بحلول منتصف القرن التاسع عشر أنّه يجب على الأوروبيين دائمًا أن يحكموا غير الأوروبيين.
وقد تم تعزيز هذه العقيدة بطرق أخرى، كان لبعضها تأثير مباشر، على ما أعتقد، في الممارسة والرؤية الصهيونية في فلسطين. وكان الموقف تجاه الأرض وتمجيدها من بين الفروق القانونيّة المفترضة بين الشعوب المتحضّرة وغير المتحضّرة، والذي يفترض أنّ الأشخاص غير المتحضّرين يفتقرون إليه. كان يُعتقد أن الرجل المتحضّر يمكنه زراعة الأرض لأنّها تعني شيئًا بالنسبة إليه؛ وعليها يُربّي الماشية ويمارس الفنون والحرف النافعة، ويبدع، وينجز، ويبني. أما الشعب غير المتحضّر، فالأرض إما تكون مزروعة بشكل سيئ "أي غير فعّالة وفقًا للمعايير الغربية" أو متروكة لتتعفّن. ومن خلال هذه السلسلة من الأفكار، حُرمت مجتمعات أصيلة بأكملها عاشت في الأراضي الأمريكية والأفريقية والآسيوية لعدة قرون من حقها في العيش على تلك الأرض. إذ جاءت حركات الاستيلاء الكبرى، ومعها كل مخططات الاستعمار الأوروبي الحديث: الاستحواذ على الأرض، وإعادة توطين السكان الأصليين وتمدينهم و(ترويض) عاداتهم الوحشيَّة، وتحويلهم إلى (كائنات مفيدة) تحت الحكم الأوروبي. وكانت الأراضي في آسيا وإفريقيا والأمريكتين متاحة للاستغلال الأوروبي، لأن أوروبا أدركت قيمة الأرض بطريقة مستحيلة على السكان الأصليين.
وفي نهاية القرن، قام جوزيف كونراد بتجسيد هذه الفلسفة في روايته "قلب الظلام"، وجسّدها بقوة في شخصية كورتز، الرجل الذي صنعت "أوروبا كلها" أحلامه الاستعماريّة بشأن "الأماكن المظلمة" على الأرض. لكن ما استند إليه كونراد، كما استند إليه الصهاينة أيضًا، هو نوع الفلسفة التي وضعها روبرت نوكس في كتابه "أجناس الإنسان"، والتي ينقسم فيها الرجال إلى بيض متقدمين "منتجين" وسود متدنين ومبذرين. وبالمثل، قام مفكرون مثل جون ويستليك ومن قبله إيمير دي فاتيل بتقسيم مناطق العالم إلى فارغة "على الرغم من أن البدو هم ساكنوها، في شكل مجتمعي منخفض" ومناطق متحضرة وتم "مراجعة" الأولى بعد ذلك بوصفها جاهزة للاستيلاء على أساس من حق الأخيرة الحضاري الأعلى.
إنّني أبسِّط إلى حد كبير التحول في المنظور الذي تمّ من خلاله إعلان ملايين الفدانات خارج أوروبا الحضارية فارغة، وتم اعتبار شعوبها ومجتمعاتها بمثابة عقبات أمام التقدم والتنمية، وتم الإعلان عن مساحاتها بالقدر نفسه من الحزم مفتوحة للمستوطنين الأوروبيين البيض واستغلالهم (الحضاري). خلال القرن السابع عشر على وجه الخصوص، انتشرت المجتمعات الجغرافية الأوروبية الجديدة كعلامة على أن علم الجغرافيا أصبح، وفقًا للورد كرزون، "الأكثر عالمية بين جميع العلوم".
ليس من قبيل الصدفة في "قلب الظلام" أن اعترف مارلو بمظهره "كنت أضع إصبعي عليه وأقول، عندما أكبر سأذهب إلى هناك". تطورت الجغرافيا والشغف بالخرائط إلى مسألة منظمة مكرسة بشكل أساس للاستحواذ على مناطق شاسعة في الخارج. وهذا ما قاله كونراد أيضًا "إن غزو الأرض، والذي يعني في الغالب انتزاعها من أولئك الذين لديهم بشرة مختلفة أو أنوف مسطحة قليلاً عنا، ليس بالأمر الجميل عندما تنظر إليه كثيرًا. ما يخلصها هو فكرة وراء ذلك؛ ليس تظاهرًا عاطفيًا، بل فكرة شيء يمكنك إعداده والسجود له وتقديم التضحية".
أعتقد أن كونراد أوضح هذه النقطة أفضل من أي شخص آخر. إن القدرة على غزو الأراضي هي في جزء منها فقط مسألة قوة مادية: هناك العنصر الأخلاقي والفكري القوي الذي يجعل الغزو نفسه ثانويًا بالنسبة للفكرة، التي تُبجل "بل وتسرع" القوة الخالصة بحجج مستمدة من العلم والفضيلة والأخلاقيات والفلسفة العامة.
كل شيء في الثقافة الغربية مؤهل لأجل اكتساب مجالات جديدة كعلم جديد، على سبيل المثال، يكتسب منطقة فكريَّة جديدة لنفسه يمكن وضعه في خدمة المجازفات الاستعمارية. وقد تم طرح "الفكرة" دائمًا للغزو، مما يجعلها مستساغة تمامًا. أحد الأمثلة على مثل هذه الفكرة التي يتم الحديث عنها علنًا كمبرر طبيعي تمامًا لما يسمى اليوم بالعدوان الاستعماري، يمكن العثور عليه في هذه المقاطع التي كتبها بول ليروي بوليو، وهو جغرافي فرنسي رائد في سبعينيات القرن التاسع عشر: "إن المجتمع الاستعماري، عندما يصل إلى درجة عالية من النضج والقوة، فإنّه يولد ويحمي ويضع في ظروف جيدة للتطور، جالبًا القوة الفحوليَّة إلى المجتمع الجديد الذي صنعه. يعد الاستعمار أحد أكثر الظواهر تعقيدًا وحساسيَّة في الفسيولوجيا الاجتماعية".
ليس هناك من مجال للتشاور مع السكان الأصليين للإقليم الذي سيولد فيه المجتمع الجديد. والمهم هنا هو أنَّ المجتمع الأوروبي الحديث يتمتع بالقدر الكافي من الحيوية والذكاء لكي "يتعاظم بتدفق نشاطه المندفع إلى الخارج". ويجب أن يكون هذا النشاط جيداً لأنه مؤمن به، ولأنه يحمل أيضاً في داخله التيار السليم لحضارة متقدمة بأكملها. ولذلك أضاف ليروي بوليو: "الاستعمار هو القوة التوسعية للشعب. إنها قوته في التكاثر؛ وهي توسعه وتكاثره في الفضاء؛ إنه إخضاع الكون أو جزء كبير منه للغة وعادات وأفكار وقوانين ذلك الشعب".
كانت الإمبريالية هي النظرية، والاستعمار هو الممارسة في تغيير المناطق غير المحتلة في العالم إلى نسخ جديدة تفيد من المجتمع الأوروبي الحضاري. كل شيء في تلك المناطق يشير إلى الهدر، الفوضى، الموارد غير المحسوبة، ينبغي تحويله إلى إنتاج، ونظام يخضع للضريبة وثروة يجب تطويرها. أنت تتخلص من معظم آفة الإنسان والحيوان المؤذية - سواء لأنها ببساطة تنتشر بشكل غير مرتب في كل مكان أو لأنها تتجول بشكل غير منتج وغير محسوب - وتحصر الباقي في المحميَّات والمجمعات والأوطان الأصلية. ومما لا يعد ولا يحصى من الضرائب واستخدامها بشكل مربح، يمكن بناء مجتمع جديد على المساحة التي تم إخلاؤها. وهكذا أعيد تشكيل أوروبا في الخارج، وتم تخطيط وإدارة "تكاثرها في الاصقاع" بنجاح. وكانت النتيجة مجموعة متنوعة على نطاق واسع من أوروبا الصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء آسيا، وإفريقيا، والأمريكتين، وكل منها يعكس الظروف والأدوات المحددة بالثقافة الأم وروادها وطلائع مستوطنيها. وجميعهم كانوا متشابهين في أمر رئيس آخر، على الرغم من الاختلافات الكبيرة، وهي أن حياتهم كانت تسير في جو من الحياة الطبيعيَّة. واعتبرت النسخ الأكثر غرابة في أوروبا "جنوب أفريقيا، روديسيا.. الخ" مناسبة.
كان يُعتقد أن أسوأ أشكال التمييز والاستبعاد ضد السكان الأصليين أمر طبيعي لأنه مشروع علميًا: إن التناقض المطلق المتمثل في عيش حياة أجنبية في منطقة تبعد أميالاً مادية وثقافية عن أوروبا، وسط مواطنين عدائيين وغير متفهمين، أدى إلى ظهور إحساس بالتاريخ، ونوع عنيد من المنطق، ودولة اجتماعية وسياسية تحكم الحاضر. المغامرة الاستعمارية كالمعتاد مبررة وجيدة).