الهوامل والشوامل في إيقاظِ العقلِ الخاملِ بالتَّساؤل

ثقافة 2024/04/30
...

  د. علي المدن

في الجزء الأول من هذه الدراسة كان هناك العديد من الأسئلة التي أثرناها في قضايا (١- الممنوع التفكير فيه، ٢- هموم ونمط الحياة، ٣- الحس التاريخي)، كما تكشفه "هوامل الرفاعي" في مسيرةِ مجلةِ {قضايا إسلامية معاصرة}، والآن إذا ما أردنا الإجابةَ فإن هذا يتطلب منا كتابةَ سيرته الفكرية، وبالتبع سيرة الجيل الذي ينتمي إليه، طيلة المدة التي مهدت لولادة المجلة وفي جميع المراحل التي مرت بها.

وهذه وإن كانت مهمةً جليلةً، خصوصًا في ظل النقص الكبير الذي نعاني منه في مجال الدراسات التاريخية المعنية بتجييل المثقفين الدينيين في بلدنا (العراق)، إلا أنني لن أترك الموضوعَ لغيري تمامًا، بل سأثير عدةَ نقاط مجملة في فهم هذه القضية التاريخية راجيًا أن تساعد هذه النقاطُ الباحثين المهتمين بأمثال هذه الأبحاث في تطوير دراسةِ الموضوع. 

1 - ذكرتُ سابقًا أنَّ عددَ حواراتِ المجلةِ بلغتْ (١١٣) حوارًا، وأنَّ حصة الرفاعي منها- إذا ما استثنينا تلك الحوارات المترجمة- في حدود (٦٢). وفي تقديري أنَّ تلك الأسئلة والحوارات تكشف عن وجود ثلاث مراحل؛ وهي: 

1 - مرحلة التفكير بالتراث من داخل التراث، و2 - مرحلة أشكلة التراث ومساءلته، و3 - مرحلة تحويل التراث إلى مادةٍ بحثية تخضع للمتاح من المعرفة البشرية، ومن ثمة القطيعة مع المناهج التراثية كافة. 

2 - كانت المرحلةُ الأولى من أسئلة الرفاعي مخصصةً للفكر السياسي الإسلامي، ومفهومِ الدولة فيه، وشكل النظام السياسي، وحين تَساءل عن الديمقراطية ربطَها بالبيئة الغربية ومجتمعاتها الداخلية، ولكنه مع ذلك أثار قضيةَ انتخاب الحاكم الإسلامي، ومسألة البيعة وتشكيل الأحزاب، وحدود الحريات في النظرية الإسلامية (انظر: حواره مع محمد باقر الحكيم، ومحمد حسن الأمين في العدد الثاني). 

وهذه الأسئلة وإن كانت جريئة في ظل نظام سياسي ديني يدير الدولةَ الإيرانية، ولكنها تمثل جزءًا مألوفًا من المشهد الثقافي الإيراني، الذي بدأ حينها بطرح هذه الأسئلةِ (يتضح هذا من حواراتِ العدد الأول الثلاثة المترجمة عن الفارسية؛ والتي تحدّث فيها ثلاثةٌ من أبرز الباحثين السياسيين الإيرانيين عن الموضوع، هم: عباس عميد زنجاني، حسين بشيريه، محمد جواد لاريجاني). 

3 - في المرحلة ذاتها نجد ثمة انفتاحًا حذرًا على المشاريع الفكرية العربية في قراءة التراث، ومحاولة التعرّف على المشهد الثقافي العربي (كان هذا مرتبطًا بمطلع عقد التسعينيات بعد انتهاء "الحرب العراقية/ الإيرانية"، وتدفّق الكتاب العربي على إيران واشتهاره في جامعاتها ونواديها الثقافية)، وفيها بداية التساؤل عن إعادة تعريف الغرب: هل هو استعماري فقط أو أنَّ هناك أشكالًا أخرى للغرب يتمايز فيها التاريخيُّ الاستعماريُّ عن "الديمقراطيِّ المعاصر" (حوارات العدد الثالث، وخصوصًا مع محمد حسن الأمين). 

4 - كانت مسألةُ فهم النصوص المقدسة حاضرةً في العدد الرابع المخصص لاتجاهات التفسير، والحوار كلّه مع إسلاميين صميمين (محمود البستاني، وجودت سعيد) ولكن السؤال المركزيَّ هو (ما هو الموقف من اتجاهات التفسير الحديثة التي تربط النصَّ بأفقه وبيئته وقارئه؟). 

5 - تستمر أسئلةُ الرفاعي في الأعداد التالية عن التراث ونصوصه المقدسة، محاولًا منحَ النقد والمراجعة مشروعة من داخل التراث؛ فتعدُّد القراءات يقابلها انفتاحُ التجربة الإسلامية على النقد، وشرعية الاتجاهات الحديثة في التَّعاطي مع النصّ يأتي في سياق بلورة نظرية إسلامية للنقد، ونقد الممارسة السياسية يتغذى من تجربة الأنبياء في تقويم سلوك المجتمعات الغابرة (انظر حوارات العدد الخامس، 1999). 

6 - حظِيت مسائلُ فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة بتغطية موسعة في أسئلة هذه المرحلة (الأعداد 7 إلى 13).

ولكن مع العدد 14 فصاعدًا يبدأ الانفتاحُ على فئةٍ أخرى من الإسلاميين (حسن حنفي، محمد عمارة، يحيى محمد، محمد حسين فضل الله، طه عبد الرحمن، وغيرهم) حول علم الكلام الجديد والسؤال عن مجاله وإشكاليّاته، والخشية من نزعته "الالتقاطية". نحتاج لأن نصل إلى العدد المزدوج (20-21) حتى يبدأ الكلامُ عن (التسامح ومنابع سوء التفاهم) مع محمد أركون، لكنَّ ذلك لا يمضي دون مساءلةٍ لفكرة "تعدد المناهج" ومخاطر التعمية في التحليل، ومسألة علاقة البحث التاريخي بالتوراة والإنجيل دون القرآن (تتم الاستعانة هنا بأعمال طه عبد الرحمن)، ونقد التجربة العلمانية، وأمور أخرى كانت بمثابة النقد العنيف لأركون (ينبغي التذكيرُ أنَّ سعيد شبار هو من أجرى الحوار مع أركون، وليس واضحًا مقدار اجتهاده في طرح الأسئلة أو حتى استقلاله الكامل فيها). 

7 - تشهد خاتمةُ هذه المرحلة مع الأعداد (23) حيث بقيت الحواراتُ تستضيف المسيري ليتحدث عن "انحيازات المعرفة"، وحديث التحرير (الرفاعي نفسه) عن (استيعاب النقد للتراث والمعرفة الحديثة) والاستيعاب هنا يعني الشمول، وكأنَّ النقد للتراث يصاحبه نقدٌ للمعرفة الحديثة (التي وصفها المسيري بالمنحازة، وفي نفس السياق تأتي الحواراتُ مع عبد الله إبراهيم عن "المركزية الغربية"). 

8 - تبدأ المرحلة الثانية من الأسئلة في العدد (24-25) الذي يتزامن مع تغيير النظام السياسي في العراق (صدر العدد في صيف/ خريف عام 2003). تُدشّن هذه المرحلة بالحوار مع الجابري والشرفي (هناك تمييز بين لغة الحوارَين يحملني على تأكيد اجتهادِ سعيد شبار في الحوار مع الجابري، لأنه ما زال يتحدَّث عن "حقيقةِ" الصحوة الإسلامية! وهو ما يختلف تمامًا عن الحوار مع الشرفي الذي أجراه الرفاعي، وينص على نظرة الإسلاميين السكونية ذات الطابع الجدلي، وعدم وجود هويات نقية، ونزعة الأيديولوجيا في تفكير الإسلاميين). 

أما العدد (33-34) فيصعد بالنقد حدًّا أعلى مع محمد الطالبي حينما يبتدئ في وضع مسألة إمكان حوار المسلم، الساكن داخل ديانته الخاصة، مع الأديان الأخرى موضع تساؤل جذري. 

9 - لن تتأخر المرحلة الثالثة من الأسئلة كثيراً، إذ يبدو أنَّ انفجار العنف في العراق قد أتى متزامنًا مع صدور العدد (37 - 38) الذي حمل حوارًا مع برهان غليون تحت عنوان (حين تنحسر الثقافةُ ينفجر العنف). في هذا الحوار تحديدًا يبدأ الحديثُ عن فشل مشروع التحديث، وعن العنف العدواني الذي نشأ عن هذا الفشل، وضرورة "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" وأنَّ الموقف التعبوي في التعامل مع الغرب، وثقافته، ومناهجه، وفكره، وقيمه، وفهمه للحقوق والحريات هو الذي أفضى إلى أجواء الاحتراب التي نشهدها. 

10 - منذ الحوار الأخير مع غليون، ومرورًا بالحوار الغنيّ جدًّا مع محمد أركون في العدد (43 - 44) (2011)، ستنتقل أسئلةُ الرفاعي إلى مرحلة الاكتمال والنضج كما تمثلها مجلة (قضايا إسلامية معاصرة)، وسلسلة مؤلفات الرفاعي حول الدين (الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الدين والكرامة الإنسانية... إلخ)؛ تتخلص الأسئلةُ في هذه المرحلة من سطوة التراث ومناهجه (يتزامن هذا مع استقرار الرفاعي في العراق سكنًا ووظيفةً) ولا تتردد في تحويله إلى مادة تاريخية يُعاد تفكيكُها وتحليلها وفقًا للمعرفة البشرية، بل وتتجه المجلةُ إلى نقل حواراتِ الباحثين الغربيين في المسألة الدينية دون غضاضة. 

٧ – رحلة استعادة الأسئلة واليقظة العقلية

لقد عكست هذه الأسئلة مراحل شاقة من التفكير والتحرر من ثقل التراث؛ فبعد أن بدأت بالسؤال عن الإصلاح الفكري من داخل التراث وبمناهجه، انتهت المسيرةُ في عام 2024 إلى أن يكتب الرفاعي عن (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث)؛ الكتاب الذي يمثّل مراجعةً نقديةً للكثير مما كان يتبناه الرفاعي نفسه، بل وتحررًا من الأسئلة القديمة التي كان الرفاعي يطرحها على الأشخاص ذاتهم، الذين ينتقدهم في هذا الكتاب: (حسن حنفي، ومحمد عمارة، وجودت سعيد، وداريوش شايغان، وغيرهم). 

يطيب لي أن أختم هذه السطور بثلاثة اقتباسات تختصر تحولاتِ الرفاعي مع الأسئلة، اثنان منها وردا في الكتاب المذكور، والثالث في آخر مقال كتبه إبان تدويننا هذا البحث؛ في الاقتباس (الأول) يتحدث الرفاعي عن علاقته بـكتابات "سيد قطب" وما تركه كتابُ "معالم في الطريق" في نفسه حول مصير "الأسئلة"، وفي (الثاني) يشير إلى مآلات الرفاعي بعد رحلته مع الأسئلة في المهجر، وكيف استقبله أصدقاؤه القدامى بعد طول انقطاع. أما (الثالث) فيوضح نتيجة هذه الرحلة للرفاعي، وهي الشعورُ العميق بضخامة الكينونة البشرية وضرورة مقابلتها بـ"تواضع"، حيث تتحول الأسئلة إلى "مهنة" شخصية تقوم على مهمة "دحض" الأجوبة الخاطئة. ومن الاقتباسات هذه يتضح أنَّ هذه الأسئلة التي سلّطنا الضوء عليها كانت "استعادة" للتفكير النقدي الذي دثرته التنظيرات الأيديولوجية الإسلامية من جهة، ويقظة للعقل السليم وُلدت في أحضان تجربة مؤلمة مع المنفى من جهة ثانية. إغنَّ ما يميز انتقالة الرفاعي، التي تحدثت عنها في أول مقال لنا قبل عقد، هو ذاته ما أسميناه حينها بـ"تجربة الإيمان النقدي"، من جهة ثالثة.

وإليكم الاقتباسات الثلاثة:

الاقتباس الأول:

(كنتُ معذبًا محرومًا فاختطفني "معالم في الطريق". سيد قطب أديب ساحر، يتقن كتابة الأناشيد التعبوية للمراهقين البؤساء أمثالي. أناشيد تذكي العواطف، توقد المشاعر، تعطّل العقل، يتوقف عندها التفكير النقدي، وتموت في كلماتها كلُّ الأسئلة)، (مفارقات وأضداد، 2024: 162). 

الاقتباس الثاني:

(في أول زيارة للوطن شهر حزيران 2003، بعد غياب نحو ربع قرن في المنفى، التقيتُ بعد عودتي بأصدقاء من الذين مكثوا مرابطين في العراق. كانوا يسألون كثيرًا في الدين أسئلة متنوعة، فوجئوا بجوابي عن شيء من أسئلتهم، قائلين بأنها لا تتطابق مع ما كنت أقوله لهم سنوات السبعينيات من القرن الماضي. قلت لهم: هذه علامة سلامة عقلية. العقل الذي يواصل إثارة الأسئلة العميقة، ومراجعة القناعات الراسخة، ومساءلة ما يقرأ ويتعلم، هو عقل يَقِظ) (مفارقات وأضداد: 85، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005: 5-6). 

الاقتباس الثالث:

(في الكتابة عن هذا الموضوع [يقصد المتخيّل الديني] وغيره أقترح إجابات، لم أراهن يومًا على أنها جزمية أو نهائية. القارئ الذكي يتنبه إلى أنَّ كتابتي تحاول إثارةَ الأسئلة، أكثر من تقديم الإجابات الجاهزة. هذه الأسئلةُ أسئلتي الشخصية، فقد كنت وما زلت مشغولًا بأسئلة الوجود، وأسئلة المعنى. في أسئلتي أفكّر عدة سنوات، وألاحق كلَّ كتاب ومعلومة حولها، وأقرأ كلَّ شيء أظفر به يتناولها، وأسعى لاكتشاف الطرق المتنوعة لتفسيرها والجواب عنها، وأحاول أخيرًا تقديم تفسيري وجوابي. من يراقب سيرتي الفكرية يرى كيف عبرَ عقلي عدةَ محطات ولم يتوقف، بفضل تلك الأسئلة. ليست هذه الرحلة الشيقة عبر المحطات إلا سلسلة دحض للأجوبة الخاطئة عن أسئلة الوجود والمعنى في حياتي). (جريدة الصباح البغدادية، الصادرة بتاريخ 28 - 4 - 2024).


ملاحظة: افتتاحية العدد الجديد من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 79- 80، (2024 م- 1445 هـ). المجلة تحت الطبع، تصدر عن مركز دراسات الدين في بغداد قريباً.