طالب عبد العزيز
هناك كتابٌ مخطوطٌ للناقد حاتم العقلي، بعنوان (نكوصُ الحساسيات) أحتفظُ بنسخة الكترونية، غير نهائية منه، كتبه قبل نحو من عشرين سنة، ولم تفلح محاولاتنا، نحن أصدقاءه، بوجوب نشره. ولوقوفنا الطويل على رأيه النقدي، وليقيننا بأنَّ العقلي جادٌ في سعيه، عارفٌ لأداته، مطّلعٌ على مدارس النقد، عاكفٌ عليها، ومخلصٌ لمشروعه، الذي ابتدأ به قبل نحو من خمسين سنة، قارئاً وكاتباً. تحركُنا مخاوفُنا من الزمن، الذي تمضي سرفاتُه، وغير آمنين على انفسنا من الشيخوخة والعجز والمرض.
كتابه النقديُّ هذا خاص بالشعر، كتب بعضَ فصوله في حمّى انشغالنا بالمنقلب الثقافي، والسياسيّ، الذي أعقب انهيار النظام السابق، مباشرة، وفيه موقفٌ متشنجٌ، سنقف عليه لاحقاً، من القصيدة العمودية، التي يراها قرينةَ النظام ذاك، ومتماهيةً فيه، بل ومنسجمةً مع طبيعة السلطة التعسفية، وروحها الفحولية "التي يعبّر عنها الطاغيةُ ذاتُه أحسنَ تعبير".
يرى العقيلي بأنَّ ثمةَ وشائجَ تقفُ وراء ظهور الطاغية "ببذلته العسكرية، من على شرفة ساحة الاحتفالات، حيث تمرُّ كراديسُ الجيش، والجيش الشعبي، وفدائيي صدام الملثمين، وجيش القدس المليوني، وهو يلوّح لهم بيده اليمين، التي ترسم بحركتها البندولية في الافق العراقي حركةً، تمسرحُ في آن واحد: كونه يجسدُ ويمثلُ نسقه الثقافي، كبيتٍ أول في قصيدة عمودية" وهذه رؤية جديدة، وجديرة بالانتباه، فقد هيمنت شخصية الدكتاتور على المشهد الثقافي بعامة، ولم تبق منه إلا هامشاً لا يكاد يرى، إذْ أنَّ اليد البندولية بحسب العقيلي "ستتحول إلى ممحاة كبيرة، شبه اسطورية، يمحو بها من فضاء الافق العراقي كلَّ ما هو مدني/ ثقافي/ حضاري وانسانيٍّ كامن في الشخصية العراقية" .
قد تبدو هذه الرؤية (شعرية) لكنها عنده وموقفٌ نقديٌّ خاصٌّ ومختلفٌ جداً من الشعر، بشقيه (العمودي وقصيدة النثر ) فهو يغالي في تقبيح القصيدة العمودية، التي ترتسم في مخيلته مثل كردوس عسكريٍّ: "مَنْ مِنّا لم يتأملْ حركة البساطيل، والاذرع الموحدة، المنضبطة، الموقّعنة، والاكفِّ المضمومة، بالقفازات البيض، الموحدنة، وكأنها قافية واحدة، بلباس بلاغيٍّ، وحيدٍ وموحْدن" أما قصيدة النثر عنده فهي تظاهرة شعبية، تعبّر عن روح الانسان الحر، وموقفه من السلطات، وتطلّعه إلى آفاق أكثر انسانية وجمالاً.، كما هي بتعبيره "أحتجاج سرّي، وتمرّد ضمني، ضد القائمين على مؤسسات الدولة، وطريقة تفكيرهم العمودية المقننة". ويهتدي العقيلي في تقريبه لأهمية الشعر ودرجة تحققه بعبارة جاك لانسيير "بمدى دخوله العالم المحسوس، ومواجهته لاساليب رؤية الواقع وتنظيمه، وممارسته للتغيير في موضع النظر ".
يتوقف العقيلي عند ظاهرة الشعر العمودي وسيادته كنمط، في سنوات صعود الطاغية إلى (الرايخشتاغ العراقي) مقارنة بالنفي والتهميش الذي عانت منه أنماط الكتابة الشعرية الاخرى، فالشاعر برأيه "يموضعُ حساسيته الخاصّة، ويعمل على تغذيتها وإخفائها، من خلال النوع الشعري الذي يكتبُ فيه" وضمن مقارباته النقديّة هذه، يرى أنَّ الشاعر حسب الشيخ جعفر لم يختر التدوير كحساسية أو نمط شعري، لو لم يكن قد تأمل بوعي تامٍّ فضاءَ الحساسية، أو مجموع الطاقات التعبيرية الكامنة في هذا النوع من الكتابة.
ويطابق بين بنية الحياة العراقية في السبعينات والنمط الكتابي، الذي اختاره الشيخ جعفر، فهو يرى أنَّ بنية المجتمع العراقي مدورة، مصطفة،كورالية، متناغمة، ومتماسكة، صاعدة وهابطة.. وأنَّ قصائده كانت نبوءات شعرية، في التغيير والتخلص من طوق العمود، وأنَّ اِختياره كان "استفادياً مركّباً" وإشارة للقادم الشعري العراقي، بوصفه قادماً شعرياً، متحرراً من كل اللوازم التقعيدية، لأنَّ الوصايا العروضية الكلاسيكية لم تعد كافية لاستيعاب حركة المجتمع العراقي الصاعدة والهابطة مثل بندول الساعة.
وعلى الرغم من التصلب النقدي الخاص الذي يبديه أزاء الشعر العمودي والمديح المضمر لقصيدة النثر إلا أنه لم يحد عن موقف سوزان بيرنار منها، فهو يرى أن التحرر الكلي المفترض الذي تشتغل عليه قصيدة النثر هو تحرر حمولات القصيدة، وعلى كافة الاصعدة" وتنقسم حساسية الانواع الشعرية عنده إلى (متقدم) و (متخلف) فهو يعيب على بعض شعرائها تكويناتهم اللغوية، وجملهم ذات البناء العربي، التقليدي، والمعتمد على الاثر والتاريخ العربي، فيسميها (بدوية) أو غير مدينية، ويرى أنَّ شعراءها فرضوا على متلقيهم رؤىً تقليديةً، لقراءة شعرهم.
ويذهب إلى أنَّ "قراءةً دقيقةً لقصيدة مثل (تاسوعاء) من منظور الكشف عن صور هذه الرؤية، سيسرب للمتلقي المتمرس المحمولاتِ الثقافية، المتخلفة أو الرجوعية، التي اشتغلت عليها هذه القصيدة" ويرى أنَّ المحمولات فيها مشعرنة بذهنية عمودية، على الرغم من أنها قصيدة نثر.
قد نختلف مع الناقد حاتم العقيلي في منهجه النقدي هذا، وقد لا نختلف، لكن، تبقى كتاباته جدلية ومثيرةً، وجديرةً بالاهتمام، لذا، أدعو الجهات الثقافية( دائرة الشؤون الثقافية- إتحاد الادباء) البحث في مخطوطاته، وهي كثيرة، والتعجيل بتحقيقها، ونشرها، إذا ما علمنا بأنه يعاني من مرض أقعده بيته، منذ أكثر من عشر سنوات.