حين تنطق القصيدة

ثقافة 2024/05/05
...

  سلام مكي

هل أن مقولة "ما يخرج من القلب يصل إلى القلب" صحيحة؟ بمعنى آخر هل الشعر المطبوع، الذي يخرج من أعماق الشاعر، يصل بالضرورة إلى أعماق المتلقي؟ إن هذا الأمر، يستدعي قراءة التذوق المعرفي والنفسي للشاعر، ومدى تواشج الأبعاد الروحية لكليهما، خصوصا وأن كلا منهما يغترف من ذات النبع في إرواء الزاوية البعيدة التي تمثل منطقة خصبة لانفجار براكين الكلمات، ومنها تنطلق سيول العواطف والمشاعر التي تتحول فيما بعد إلى كلمات ذات قيمة فنية وروحية. تلك الكلمات، التي يراها الشاعر، ذات دلالات نفسية وإنسانية عميقة، ويجدها أصدق من يعبر ويكشف عن أسراره وذاته، قد لا تعطي نفس الصورة للقارئ، لأن هذا الأخير، قد يختلف وبنسبة كبيرة في مكوناته وسرائره عن الشاعر. وبالتالي، لا تجد كلمات الشاعر، ذلك الصدى المنشود. لكن حين تغمر الروح مياه من نبع واحد وتتشكل المشاعر، من ذات المصادر، فمن المؤكد أن القصيدة التي يخلقها الشاعر عبر طين الروح الأول، ستكون مرآة وصورة لكل قارئ.
 ولنأخذ مصداقا على كلامنا قصيدة "آلهة الزقوم" التي يأخذنا فيها سركون بولص إلى عالم قد يكون مستترا لدى الكثيرين، لكنه مألوف لدى العديد من أصحاب التجارب، إنه عالم خط التصدي الأول للسلطة، عالم الوقوف بوجه فوهة المدفع، فسركون في هذه القصيدة التي يهديها إلى القاص " يوسف الحيدري" يصور لنا عالما من القتل النفسي والرمزي للروح الإنسانية:
"صرخت: يا يوسف
ماذا حدث لوجهك يا يوسف؟
ماذا فعلوا بعينيك يا يوسف
ماذا فعلوا بعينيك وحق الله؟
قال: لا تسألني، إنه الدمار!".
فيوسف ذلك العائد من الموت المؤقت " السجن" يراه سركون فلا يكاد يعرفه لهول ما حصل له من تعذيب وتغيب لروحه وعقله وجسده. فكان الجواب " إنه الدمار" تعبير عميق عن الضرر الذي لحق بيوسف، فالدمار يعني عدم بقاء شيء منه سليما.
هذه القصيدة التي استطاع الشاعر سركون بولص أن يكون مرآة لكثيرين، ممن ذاقوا مرارة السجن والتغييب والترهيب، استطاع أن يجعل من قصيدته حكاية المضطهدين والمقتولين، فهو حين أخرجها من أعماق أعماق روحه، وإن كان قد صوّر موقفا إنسانيا حصل معه عندما التقى صديقا قديما له، لكن ذلك التصوير، اشترك به كثيرون، ممن عانوا من ذات التجربة والمرارة.
ليست هذه أول وآخر قصيدة كتبها سركون استطاع فيها أن يصنع إيقونة شعرية اشترك في رسمها كثيرون، فهناك قصائد أخر، كتبها عن المنفى:
"اللاجئ المستغرق في سرد حكايته
لا يحس بالنار، عندما تلسع أصابعه السيجارة
مستغرق في دهشة أن يكون هنا،
 بعد كل تلك الهناكات، المحطات والمرافئ
دوريات التفتيش، الأوراق المزورة".
هذه الصورة المستلة من مشاهد حيّة مرّ بها كثيرون، عاشوا ذل اللجوء، والغربة. فاللاجئ لا يحس بالنار، عندما تلسع أصابعه السيجارة. فما به من نار ولوعة، يفوق نارها نار السيجارة. فنار دوريات التفتيش، وجحيم الأوراق المزورة التي لولاها لما استطاع أن يخرج من جهنم الأول التي خرج منها بأعجوبة.
"لو سألتني لقلت: الانتظار الأبدي في دوائر الهجرة
والوجوه التي لا ترد الابتسامة مهما ابتسمت".
هذه التفاصيل لا يشعر بها سوى من مرّ بتلك الأحداث، وعانى مرارة وأسى دوائر الهجرة التي لا تقل قساوة عن دوائر جهنم! والكثير من القصائد التي كتبت وشاعرنا يرزح تحت طائلة الألم والعذاب النفسي والجسدي. ففي القصيدة الأولى، كان سركون يعاني ألما نفسيا، حين شاهد صديقه القاص يوسف الحيدري بوضع مزر، نتيجة التعذيب والسجن. وفي الثانية، وحتى لا يكون يوسف الحيدري مجددا، قرر الهجرة، لكنه اصطدم بدوائر الهجرة، والوجوه التي لا ترد الابتسامة مهما ابتسمت. وحين تنطق القصيدة، فإنها ستجد صداها يتردد داخل كثيرين، ستجد من تنغمر روحه في مياه حروفها، لتكون.