عندما نبررُ عيوبَ القصيدة

ثقافة 2024/05/06
...

  وارد بدر السالم

منح الشعر قديماً ما لا يُمنح للناثر من انفتاحات شكلية وقواعدية وصرفية وعروضية، فإن كان الشعر هو الديوان الأشهر في المنظومة القيمية للمجتمع القبلي العربي آنذاك، فأن النثر لم يكن ليحظى بتلك
 الرفاهية التي كان الشعرُ
 عليها. ولنا في ما ينسب
 إلى الشاعر الحطيئة
 مقولة {أعذبُ
الشعر أكذبه}
ما يتيح للشاعر
 الهيمان المفتوح
 في عالم الإلهام
 والصور فاتنة الخيال
 أن يركب شراع اللغة
 كيفما يريد.

(1)
فالشعر صورة ولغة وخيال على أية حال، تترتب القصيدة فيه عمودياً بقافية موحّدة، منسوجة بمعمار بنائي متماسك.
يتقدم فيها الصوت على الكلمات، وتتماهي فيها الصورة على حساب المعنى، وتمتزج كلها بمخيلة شاسعة، شاء فيها الشعراء العرب آنذاك؛ في الجاهلية على وجه التحديد؛ أن يتبارزوا بالقافية والصورة والوصف والخيال الجامح على حساب كل شيء.
عنترة بن شداد مثالاً: "ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ منّي وبيضُ الهند تقطرُ من دمي/ فوددتُ تقبـيلَ الســيوفِ لأنّـها لمعــتْ كبارقِ ثغركِ المتبســم".
(2)
بينما بقي النثر مخلصاً لسردياته القائمة على أساس البلاغة الوصفية وإيقاع السجع والارتجال المتين، سواء أكان ذلك في الرسائل الأدبية أو القصص أو الوصايا وغيرها من الفنون؛ كالخطابة؛ التي بقيت ماثلة في أسلوبيتها القديمة بفخامتها الأسلوبية، وإنشائها المسبوك سبكاً، وروعتها الأدائية واللفظية المُحكمة التي ظلت محافظة على أصالتها البلاغية والقرآنية حتى هذا الزمن.
أكثم بن صيفي مثالاً: ".. خير الأزمنة أخْصبها، وأفضل الخطباء أصْدقها، الصِّدقُّ منْجاةٌ، والكذِب مهْواةٌ، والشر لُجاجة والحزْم مرْكب صعْبٌ، والعجْز مرْكب وَطِيء، أفةُ الرأي الهوى، والعجْز مِفْتاح الفقْرِ، وخيرُ الأمورِ الصبر، حسْنُ الظنّ ورْطةٌ، وسوءُ الظنّ عِصْمةٌ، إِصلاحُ فساد الرعِيةِ خيرٌ مِن إصلاحِ فسادِ الراعِي، مَن فسدت بِطانته كان كالغائصِ بالماء".
(3)
في حضرة الشعر قالوا أيضاً : "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره" من مخالفات لغوية ونحوية، تحت تبرير الضرورات الشعرية، وهذا غير وارد في النثر.
وقد وجد الجرجاني مثل هذه التبريرات في تشخيص أخطاء المتنبي الشعرية.
لكن الحاذقين في قراءة الشعر يومذاك، ولما وجدوا بأن "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره" حددوا بعضاَ من الضرورات الممكنة في القصيدة العربية: صرفُ الممنوع من الصرف، وقصر الممدود، تخفيف الحرف المشدد في روي القافية.. وغيرها.
لهذا يرى الباحثون والدارسون لتلك المراحل الشعرية وعلى مر الأزمنة المتعاقبة أن هذا “الجواز” للشعر يشير إلى إخفاء وتبرير لعيوب في القصيدة، في قصورها لتراتبية المعنى، وتهجين للّغة الفصحى.
وإيراد الغريب من اللغة وزجّه في الهيكل العام في القصيدة من دون مسوّغات مقبولة.
أبو تمام.. مثالاً: "مِن كُلِّ أَظمَى الثَرَى وَالأَرضُ قَد نَهِلَتْ/ وَمُقشَـعِرّ الرُبَـا وَالشَمــسُ في الحَـمَـلِ (أظمى- ظمآن)".
(4)
بقي النثر محكوماً باللغة وقواعدها وصرفها ونحوها ومزاياها الاعتبارية والذوقية في مفرداتها، فلا يجوز للناثر ما أجازوه للشاعر من أخطاء وتهاون لغوي ومبررات غير صحيحة.
لذلك فأن المنظومة اللفظية العامة بين الاثنين "الشعر- النثر" وإن كانت مشتركة كأصل لغوي، إلا أن حساسياتها تعمل في الشعر أكثر من النثر.
ونرى في الخطابة الارتجالية ومع سبكها المتناغم هي إحدى خصائص الفخامة اللغوية الفصحى، ومع أن الشعر يماثلها في الفخامة والخيال اللغوي في صُوره المبتكرة، إلا أنه محكوم بالوزن والقافية والبناء العمودي الذي يتعرض إلى أشكال من الزحف والقصور في التواصل الأدائي له.
بينما في الخطابة استرسال لغوي وصوري غير محكوم كما حُكم على الشعر في وزنه وقافيته.
أن مقولة "يجوز للشاعر..." هي تمرير الأخطاء الاضطرارية التي يلجأ اليها تحت هذا البناء.
أو أن بعض الشعراء يتهاونون في ضبط المفردة لإخراجها عن سياقاتها الدالّة عليها، وإيجاد فاصلة لغوية، ربما هي أكثر قوة من أصلها، وهذا شأن لغوي غامر به "الجواهري" ذات مرة في إحدى قصائده ، فجمع مفردة "كنز" إلى "كنائز" وكنائز غير موجودة في القواميس العربية القديمة كما نحسب.
لكنها كانت "كنزاً" جواهرياً لم يعترض عليه أحد من الدارسين والباحثين اللغويين.
وبالتالي فأن ابتكار مفردة غير دارجة لغوياً، لا يعني بأنها خرجت عن سياقات اللغة الفصحى، بل أضافت لها كما نتوقع، متوافقين مع الفكرة الصحيحة التي تشير إلى أن اللغة هي كائن حي ينمو ويتطور على مر الأجيال الأدبية والثقافية، ولا بأس أن يُخترق شيء من منظوماتها الدفاعية القارّة، للإضافة المعاصرة في أقل تقدير، كما هو حاصل في لغات العالم من نمو وتدبير وإضافات.
(5)
هل الشاعر الجاهلي كان يتجاوز اللغة ويضيف اليها؟
نعم. ولكن بحدود اللغة ومستوياتها الدلالية واللفظية، فالأدب قديماً لم تُخضعه نظريات البحث إلى ما هي عليه الآن، والشاعر الجاهلي وإن كان محكوماً بإطار اللغة الفخمة وعمقها المعرفي، إلا أن الصورة الشعرية التي يبتكرها، هي التي تبيح له ما لا تبيحه للخيال النثري، من آفاق ربما تكون أكبر من قاموسية اللغة وبقائها في المعنى الإطاري، لهذا سار الخيال الشعري الفذ بإيراد ما يُراد له أن يكون قاموسياً.
سيُقال بأن قصيدة النثر تجاوزت اللغة بكثير، وأحاطت ذاتها المتخيلة بقاموس جديد من الخيال الشعري اللغوي، وهذا موضوع متشعب بطبيعته، وبما أن هذا النوع الشعري مصنّف عربياً على أنه امتداد لأشكال القصيدة العربية "العمودي- الحر" وأن "تفجير اللغة" من سماته الأساسية، فلا نعتقد بأنه يقع ضمن هذه الملاحظات التي تستعين - شعرياً- بالمهادنة اللغوية والزحف على تاريخها القديم، مع النظر إلى أن قصيدة النثر أوجدت لها فسحة كبيرة وواسعة في المشهد الشعري العام. وكأنها تؤكد المقولة القديمة بأنه يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره.
اللغة كائن حي. ينمو. يتطور. يحذف.. يضيف.. يتماهى.. ولا ينتحر..!