ياسين طه حافظ
مثل هذه الاسئلة صارت تلح عليّ قضاياها في السنوات الأخيرة، سنوات بعد الثمانين. ذلك لأني صرت أواجه مِحَنا فكرية مثلما يضطرني سرٌّ ما لمراجعة ما هو سائد، ما أنا سلمت به من أفكار.
إذاً، هي مراجعة لما تم واستجابة لجديد يحرّض. وأول هذه الاسئلة هو: لماذا أكتب وقد كتبت أكثر من 50 كتابا وكوما من ورق؟ ما هو الموضوع "الأكبر" الذي يستهلكني ومازلت مستسلما لاستلابه أو لإغرائه، أو لأجوبته غير الشافية والتي تبقيني ظامئاً أو تزيدني ظمأ؟
عجزا عن، واستسهالا للوصول إلى حل، أخذت عيّنة من تعبيرٍ غير كتابي، وعينة أخرى كتابية، مثالا من لوحة رسم ومثالا آخر من عمل روائي، وبدأت اسئلتي عن اللوحة:
ما الذي يؤسس الوحدة التأليفية لهذه اللوحة أو تلك؟ وسؤالي الثاني المماثل ما الذي يؤسس الوحدة التأليفية لهذه الرواية أو تلك؟
إن أياً من اللوحة أو الرواية ليست جانباً معزولا من شيء ولا الشيء فيها صامتٌ معزول وحده، ولا البطل "أو الشيء" في الرواية إلا في مدى من حياة. حياة إنسان هو الكاتب "أصلا" أو هو بطل العمل ومداره أو قطبه. اللوحة حياة لها اكتمالها أو شبه اكتمالها أو قل خصوصيتها. والرواية لها حياتها أو عالمها المماثلان لما ذكرنا. وعملنا الفني، الابداعي ، بإنسانيته، إنما يعرض تفاصيل تلك الحياة ومتاعب أو أحزان أو مواجهات بطلها أو أبطالها "وهم النسخ الأخرى من حياة شخوص لهم صلة بالمؤلف أو له صلة بهم، فكرية أو حياتية".
ولذلك تردد كثيرا انتقادُ اللوحات الحديثة وتعدد ايضا انتقادُ الرواية الحديثة، بسبب افتقادها إلى ما سمي بوحدة الموضوع بمفهومه القديم.
والحقيقة الواجب ذكرها هي أن وحدة موضوع "الجو" أو تفاصيل "الحياة" المرسومة أو المكتوبة هو الذي يُفتَقد وهذا يعني أننا بإزاء عشوائية المنظور وتشتت إنسانيته.
وإذا أردنا الحقيقة الادبية أو الفنية هو يعني افتقاد جوهر العمل. نقطة انطلاق مركزية مطلوبة ورؤية لما له صلة بذلك مطلوبة وإلا فما معنى عمل فني؟
لم نعد نكتفي أو نقنع بالإحالة، أي احالة الموضوع إلى حدث قديم أو اسطورة.
نحن لا نريد مغادرة موضع الاهتمام الجديد وهو "قطاع" أو "وجود الحياة" الذي نعمل على كشفه. العناصر والأجزاء والمفردات الكثر، ليست هدفا إلا بقدر ما تكشف عن تماس الإنسان بما حوله، أو عن محنته أو حيرته بينها.
وهنا نذكر كيف تحول النقد ضد التصوير الوصفي، لأن فيه إبعاد عن حميمية الإنسان ودفء الحياة الإنسانية. فيه نوع من موت العلاقات أو الصلات. لسنا صنّاع دمى.
نحن معنيون في "هذه الحياة" والتي مجموع الحيوات الصغيرة فيها، أو وِحداتها تمثل حياة إنسانية اوسع. لا عبث في الفن.
ولا عبث في الادب. نراجع الفن الوصفي منذ القرن التاسع عشر فنراه في مرحلته الاخيرة صار يفسح مجالا لا لتطور فن آخر حسب، ولكن فسح مجالا اكثر للاهتمام الإنساني وللفكر الإنساني، المحاصَر غالبا.
الأدب والفن صارا أكثر غنى فكريا وأكثر إنسانية أيضا. وأهم ما في الفن الحديث والأدب الحديث هو الابتعاد عن التناول من بعد، عن الوصف أو العرض التعسفي الذي تضعف فيه أو تتضاءل العلائق الإنسانية بالأشياء.
صرنا في اللوحة وفي الرواية نؤمن ايمانا واسعا ومركزيا بأننا نريد الإنسان في الحياة ونريد الناس في حياتهم الكلية أو في الأجزاء التي تخصهم أكثر أو التي تحاصرهم. نريد نراهم مبتهجين أو ممتحَنين بما حولهم.
ومثل هذا نقوله عن طرح الوقائع والأحداث في العمل الفني، لوحة أو رواية. العشوائية ليست من الفن والعشوائية ليست أبدا من الأدب.
ما عادت وحدة الموضوع بمضمونها قبل قرنين، المقصود في العبارة تغير وصار يدل على وحدة الحياة التي نعمل على كشف تفاصيلها.
هذا "المدى" الحياتي الذي اخترنا استكشافه ومفرداته، هو الآن موضوعنا. ووحدة الموضوع في مدى عدم ابتعادنا إلى منطقة اخرى ليست موضع اهتمامنا ساعة أو زمن العمل. قد تكون تلك موضوعا لسوانا أو لكتابة أخرى.
بقي سؤال أو اعتراض أو استدراك، ما المدى المسموح لنا بتجاوز "اطار" اللوحة أو "عالم" الرواية المعنيين به؟
هل يُسمَح لنا بتجاوز الاطار تماما مخترقين حدود منطقة العمل؟
لم تبتدع البشرية حتى الآن قوانين منع كهذه، ولكن هي أيضا لا تريد الضياع ولا تريد اغفال مدار الاهتمام، ولا أن ننشغل بأنموذج حياة أخرى وقد تركنا عملنا في منطقة ثانية، فنضيع على الإنسان وعلى أبطال العمل "أو على الكاتب وقرائه.." فرصة كشف المزيد من حياتهم أو من عالمهم، ومن الحال التي وجِدوا فيها، وضمن تلك الظروف التي قَصَدْنا اصلا لمعرفتها وإلى كشف ما فيها.
وهو هذا أساسا ما يدعونا للكتابة مثلما هو، لا سواه، يدعونا للقراءة!
بقي أن نقول أيضا إن اختراق الحدود والبحث فيما وراءها عما في تاريخ الإنسان أو "المسألة" أو الحال الذي يزحم الإنسان أو يهمه أو يهيمن على حياته، لا يعتبر كل هذا ابتعادا.. ولكن تواصلا أو تجاوزا "للقشرة" او للعتمة الحاجزة عن امتدادات ٍ نراها.
فهو ليس ابتعادا عن ذات البطل أو موضوعه ولكن تَمَثُّل لمزيد من الذات وكشف لمزيد من الحياة أو من الخبرة، أملا بكشف أكثر أو أملا بحل "اللغز"، ومحاولة للوصول إلى رؤية إنساننا أو بطلنا وهو في الحال والزمان والمكان اللذين نتابعه فيهما.
علما بأننا وأنه محاطون دائما لا بمستقرات ولكن بمتحولات كثيرا ما تزعزع القناعات التي أردنا لها التواصل.
فنحن ملزمون بإعادة الرؤية وإعادة الكتابة، ولهذا تتعدد اللوحات وتتعدد الروايات في الموضوع الواحد. ليس ذلك عبثا ولكن حاجة وحاجة دائمة.. ونافعة!