{صوت الآخرين} مترجمة تختلق القصص لمساعدة اللاجئين

ثقافة 2024/05/06
...

 عدنان حسين أحمد

كثيرة هي الأفلام التي ترصد ثيمتيّ الهجرة واللجوء، لكن القليل منها هو الذي يهز الأبدان ويلامس شغاف القلوب. وفيلم {صوت الآخرين} للمخرجة الفرنسية فاطمة قاسي المنحدرة من أبوين جزائريين هو من هذا النمط الذي يأخذ بتلابيب المتلقي منذ الاستهلال وحتى الجملة الختامية.
قد تكون كلمة "الترجمة" هي المهيمنة النصيّة والبصرية في هذا الفيلم الدرامي القصير الذي تبلغ مدتهُ ثلاثين دقيقة، لكنها تتشعّب في بنيتها العميقة لتطرح أسئلة عميقة ومؤثرة أبرزها: هل يمكننا أن نُترجم الحياة المأساوية لشخص ما حينما يطلب حق اللجوء بأشكاله المختلفة في أوروبا والعالم الغربي، أم أنّ هناك قصورًا أبديًا لا يمكن الإحاطة به أو تجاوزه للتغلّب على مشاكل الترجمة التي تستنطق المشاعر والأحاسيس الداخلية للاجئ السياسي أو الإنساني الذي هرب من القمع والحرب والمجاعة وجازف بالوصول إلى الجنة الآمنة، التي تجري في مضاربها الخضراء أنهار من اللبن والعسل والنبيذ؟
فثمة شعور بالعجز أو اليأس شبه المطلق الذي ينتاب اللاجئ وهو يروي قصة لجوئه بلغته الأم التي قد لا تُسعفه في كثير من الأحوال بينما تقف في مواجهته موظفة لا مبالية من دائرة الهجرة واللجوء تستمع ببرودة أعصاب قاتلة إلى قصص متكررة تتشابه في الهيكل العام، وتختلف في التفاصيل الصغيرة فتثير عندها الكثير من عوامل الريبة، والشكّ بأنّ ما تستمع إليه هو مجرد قصص كاذبة ومُلفقة لا غير.
يقوم الهيكل المعماري لهذا الفيلم على ثلاث شخصيات تشادية وسورية وسودانية نراها ونستمع إلى شهاداتها، أمّا اللاجئ الرابع، فلا نراه لأن عاملاً في المركز الاجتماعي اتصل بالمعنيين وأخبرهم بأن هذا اللاجئ قد وُجد مقتولاً في غرفته وأنّ طلبه الذي قدّمه منذ سنتين قد رُفض.
يروي اللاجئ التشادي بأنه كان يعمل في صالون حلاقة لكي يؤمِّن تكاليف دراسته، لكنه اضطر إلى الرحيل لأنّ منظمة "بوكو حرام" شنّت هجماتها الإرهابية على نجامينا في عام 2015 وقد اشترك صاحب الصالون في تلك الهجمات الأمر الذي دفعه للهروب خشية أن يتورط في تلك الجريمة، ويعترف بارتكابها تحت وطأة التعذيب فعَبر الصحراء إلى ليبيا واشتغل في بيع البنزين ليدفع النقود إلى المهرِّب الذي سوف يُقلّه إلى أوروبا وبما أنّ ليبيا تعاني من الحرب الأهلية فقد قرر الهروب إلى أوروبا مهما كان الثمن باهظًا.
نتعرّف من خلال استجواب اللاجئة السورية التي درست الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق وعندما حدثت الانتفاضة التحقت بعائلتها بدرعا، لأن النظام قبض على أخويها لكنها تفشل في وصف الطريق بين دمشق ودرعا ولا تتذكر اسم مدير المعهد الذي درست فيه وتطلب منها الموظفة شهادة وفاة أمها وبعض الوثائق التي تتعلّق بعملها وحياتها كراقصة مثل الصور والفيديوهات.
أمّا اللاجئة السودانية فقد درست القانون في الخرطوم ومارست العمل لعشر سنوات، لكنها اشتركت في المظاهرات المناوئة للسلطة فتعرضت للتعذيب في أحد السجون التي لم تعرفها لأنها كانت مُعتقلة في غرفة صغيرة مظلمة لا تميّز فيها بين الليل والنهار.
وحينما خرجت من السجن بعد شهرين لم تعثر على زوجها الذي توارى عن الأنظار فشعرت بالوحدة.
لم تقف المترجمة على الحياد وإنما كانت تتدخل في كل مرة حيث طلبت من اللاجئ التشادي أن يكون دقيقًا لأن الموظفة تريد أن تربكه، وتنبّه اللاجئة السورية كيف يكون الطريق هادئًا في وقت الحرب؟
وتضيف لقصة اللاجئة السودانية بأنّ العناصر الأمنية دهموا منزلها، واقتادوا زوجها إلى مكان مجهول فشعرت بالوحدة واليأس المطلق.
تطلب الموظفة جواز سفر اللاجئة السودانية وتخبرها بأنها سوف تستلم النتيجة بعد بضعة أسابيع وحينما تلتقيان في المترو وتتبادلان النظرات الكسيرة تذرف المترجمة دمعة حرّى تقول كل شيء دون تنطّع أو بلاغة لغوية فارغة.
لا شكّ في أنّ قصة الفيلم متقنة وأنّ السيناريو الذي كتبتهُ المخرجة بالاشتراك مع بابلو ليريدون محبوك جدًا، كما تألقت الفنانة التونسية أميرة شبلي في تقمّص الدور المُسند إليها ببراعة كبيرة حتى أنها حصلت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كليرمون فيرون للفيلم القصير في فرنسا. سبق للمخرجة فاطمة قاسي أن أنجزت فيلمين قصيرين وهما "المقبرة" و "قطع الغيار" فيما حصل "صوت الآخرين" على جائزة "أضواء على المرأة" في مهرجان "كان" وتنهمك فاطمة حاليًا في العمل على أول فيلم روائي طويل لها يتمحور على امرأة منفية أيضًا.