قوّةُ المعنى الشعري

ثقافة 2024/05/07
...

  محمد صابر عبيد

يتحرّك مصطلح {المعنى الشعري} قياساً بمصطلح {المعنى} -المجرّد من الإضافة- داخل أفق دلاليّ خاصّ يحيل على مفهوم {الشعرية} بكونها السيميائيّ العام، ومن هنا يكتسب المصطلح قوة مفارقته لدلالة {المعنى}، فصورة {المعنى} على هذا النحو الاصطلاحيّ المجرّد تذهب نحو تعيين المقصود بما يناسب وضع الدال المباشر في السياق، ولا يتحرّك مطلقاً خارج دائرته لأنه يضيع ويتشتت ويفقد قدرته على التعيين والقصدية الحاسمة المكتملة، بينما {المعنى الشعري} يقوم على فعاليّة تدليل عالية تتجاوز دائرة {المعنى} والحصن المتماسك والعازل الذي يتحصن فيه، ويسهم في ثباته وتمركزه في دائرة دلاليّة مقفلة.


 ينفتح "المعنى الشعريّ" في هذا المسار على مساحة لا متناهية من قوّة التدليل؛ تتلاءم بروحيّة ذات طاقة إيجابيّة مع الخزين المعرفيّ الذي يتمتّع به الفاعل الدلاليّ العامل فيه، فالصفة المعرّفة "الشعريّ" تمنح "المعنى" قوّة هائلة قادرة على استدعاء طاقات دلاليّة هائلة بوساطة آليّة جبّارة تدعى "الانزياح"، حيث تتّسع المسافة الدلاليّة بين الدال والمدلول إلى درجة متموّجة تستجيب لطبيعة الثراء المعرفيّ والذوقيّ والخبرويّ الساند لفعاليّة التدليل.
أمّا إذا كانت صفة "الشعريّ" للموصوف "المعنى" خاصّة بالعمل الشعريّ بوصفه الفنّ الأبرز في تاريخ الثقافة العربيّة؛ فإنّ الـ"قوّة" هنا تأخذ أبعاداً أكثر تعدّداً وتنوّعاً في انفتاحها على حركيّة انزياحيّة تعمل في الجهات كلّها والطبقات كلّها، ليكون "المعنى الشعريّ" طاقة خلّاقة تساعد في إنتاج ما يمكن أن يفاجئ الشاعر نفسه بعد الاطلاع عليها، حين يجد أنّ قوّة المعنى في قصيدته تشظّت إلى إشراقات دلاليّة ملوّنة ومضيئة وذات حراك دلاليّ مدهش؛ لا تخطر له على بال داخل المقصديّة العامّة الأصليّة لرؤيته، وهي تتعدّى حدود هذه المقصديّة التي انبنت القصيدة على أساس معطياتها ومرجعيّاتها وأسوارها، ودخلت في مناخ شديد التعدّد والتنوّع خلقته القصيدة في منطقة خفيّة ومستترة لا يرها الشاعر بوضوح كافٍ، لكنّه يشعر بها بعد أن يظهر هذا المعنى الشعريّ إلى الوجود على يد الفاعل الدلاليّ، في عمليّة استثمار كثيفة ذات زخم معرفيّ مشحون بأعلى كفاءة قادرة على الغوص في بواطن المعنى واحتمالاته الشاسعة.
تتجلّى قوّة المعنى الشعريّ في ميدان الشعرية العربية الحديثة -على وجه الخصوص- داخل نماذج نوعيّة شعريّة عالية؛ تفرض على مجتمع القراءة أرفع قدر من المعاينة النقدية المستفيضة الداخلة في خلايا القصيدة ونويّاتها الدقيقة، وتنتهض قراءة المعنى في هذا السياق على رؤية شعرية حداثية؛ تبحث في أعماق المتون الشعرية؛ ابتداء من المستوى اللسانيّ وصولا إلى المستوى الشعريّ الجماليّ، على وفق منهجيّة حداثيّة تتحرّى آليّة تكوين النصوص ذاتها بذائقة تحتكم أولاً وأخيراً إلى الشخصية النقدية القارئة، وتركّز على فعالية الدوال والكيفية التي يمكن أن تنتج فيها شبكة من الدلالات لا تقنع بالحدود، ولا تكتفي بما تحصل عليه من منجزات لأنّها تعتقد أنّ ثمة ما هو غير مكتشَف وبحاجة ماسّة إلى اكتشاف، وتستحضر في قراءتها كامل الطاقة المرجعية الثقافية والمعرفية والرؤيوية؛ مزوّدة بروح رحبة وإيجابية تتعامل مع النصوص بمبدأ الحبّ الكاشف والحاوي والمتمثّل بإشارات وعلامات شديدة الثراء والقيمة.
ينبغي أن لا تترك القراءة في هذا المجال أيّ بقعة أرجوانية تشكّل أهمية في تكوين المتن النصي للنصوص المنتخَبة من دون أن تأتي عليها، ابتداءً من ميدان العتبات النصيّة ولا سيما عتبة العنوان والعتبات الأخرى المجاورة والمؤثرة في فعالية التكوين والتأليف، لأجل أن تكون الصورة الكلية للنصوص -ميدان الرصد والتحليل والتأويل- حاضرة في التشكيل ومتجلّية أمان بصر المتلقّي، فضلاً عن عناصر التشكيل الجمالية الأخرى كلما كان ذلك مناسباً وضرورياً وممكناً، للوصول إلى عتبة قراءة لا تكتفي بالتذوّق الفنيّ للنصوص بل تسعى إلى مشاركة المتلقّي هذه المتعة، وإدخاله في الجوّ العام للحراك الشعريّ الذي تقوم به الأدوات الفنية على نحو مشتبك ومتكامل وعالي الجودة.
إنّ اللغة النقدية التي يجب أن تستخدم في قراءة النصوص الشعرية للحصول على قوّة المعنى هي لغة نقديّة حرّة واستثنائيّة وفريدة، تنتمي إلى الناقد انتماءً حاسماً وتؤلّف أسلوبيّته وشخصيّته النقديّة المميّزة، لا تلتزم بالحِرَفيّة النقديّة الحديّة التي تشرّح النصّ وتفكّك أدواته بلا رحمة؛ بل على العكس من ذلك تحترم كليّة النص الشعريّ مثلما تحترم جزئيّاته، وتتعامل مع طبقاته وإشاراته وعلاماته كلّها على وفق الرؤية الجماليّة والذوقيّة العالية التي تبنّتها القراءة، وهي تسعى إلى الكشف الشعريّ الخاص بجوهر المعنى في إشكاليته الشعريّة غير المنتهية.
إنّ المعنى الشعريّ في هذه الإشكاليّة بحسب منهجيّة القراءة النقديّة هو معنى متجدّد ومستمرّ وفعّال وحيويّ وجوهريّ؛ لا يكتفي بنتيجة واحدة توفّر له القناعة الأكيدة بانتهاء عمله عند هذا الحدّ بما يوجب عليه الاكتفاء والاقتناع والتوقّف، على النحو الذي تحتاج فيه هذه اللغة النقديّة إمكانات معرفيّة ذات خبرة عمليّة واسعة تقوم على الممارسة المستمرّة، تقود إلى حساسيّة تعبيريّة وتشكيليّة وتصويريّة تحفر في طبقات النصوص وزواياها وظلالها وخفاياها وأجوافها، وتحقّق جدوى الاكتشاف الجماليّ في كلّ طبقة باستقلاليتها النقديّة الخاصّة؛ ومن ثمّ بعموم هذه الطبقات في اشتباكها وحيويتها وضمانتها المتطوّرة بلا حدود، بلغة ترتفع باستمرار نحو أعلى مراحل الكتابة المحتشدة بالفرح والبهجة والأسلوبية الجمالية الفعّالة والمنتِجة.