بغداد: الصباح
بعد رواياته الثلاث التي شكلت مشروعاً روائياً لدراسة البنية السايكولوجية والاجتماعية للشخصية العراقية، والتي حصدت إحداها “وجوه لتمثال زائف” جائزة كتارا للرواية العربية 2017، يقدم لنا الناقد والروائي العراقي حسين السكاف روايته الرابعة “فيروزة لجديلة النجلاء” (دار التكوين 2024).
هنا يقدم المؤلف سيرة عائلة وأشخاص مرتبطة بتلك العائلة، وكأنه يكتب سيناريو فيلم مختصر، يمتد زمنه قرابة ربع القرن، حيث نتابع سيرة حياة “موسى” الطفل الذي حملت به أمه سفاحاً، وهي في سن السادسة عشرة حين أجبرها الجوع وحاجة عائلتها إلى ما تقتات به بسبب غياب رب العائلة “إسكندر”، الذي يشتغل بالغوص، والذي غاب طويلاً حتى ظن الجميع بأن البحر قد ابتلعه ورفاقه، إلى بيع جسدها مرغمة، وتلد سراً بعد عدة لقاءات ببائع، وبعد تسعة أشهر حمل، صبياً أسمته “موسى” ليكون بطل الرواية ومحور أحداثها...
جزآن يكوّنان الرواية، لكن التباين الواضح بين الجزأين، يشير إلى أن المؤلف الذي طالما تساءل عن سبب غياب روايات الحب ضمن المشهد الروائي العراقي، أراد الإجابة على تلك التساؤلات وشرع في كتابة رواية ثيمتها الحب، وذلك ما نتلمسه جليًا في جزء الرواية الأول، رغم أنه منذ الورقة الأولى من روايته، حذرنا المؤلف من الموروث، الذي إن أُطلق له العنان سيقتل ذلك الحب
حتماً.
تدخل الموسيقى عوالم الرواية من أوسع أبوابها، من كلية الفنون الذي صارت “بهار” أخت بطل الرواية – على الأوراق الرسمية فقط - تدرس الموسيقى هناك، لكن المفارقة تكمن في ظهور “خضور” الموسيقي عازف الكمان المعدم، الذي فقد حبيبته هو الآخر وصار يؤلف لنا سلسلة معزوفات بعنوان “نداء”، نداء الحب الضائع أيضاً:
“أريد اكتشاف موسيقى تعيد الموتى إلى الحياة...”
“كل موسيقى أؤلفها، هي في الحقيقة “نداء” إلى روح فارقتني وأتمنى عودتها...”.
أثناء بحثه عن حبيبته “النجلاء” الضائعة، المختفية وعائلتها دون مبرر، تظهر في حياة بطل الرواية، شخصية “سمّور” الشاب الذي يمتاز بإنسانيته وشغف الموسيقى وابتسامته المحببة الدائمة، والذي لا يعرف معتقد عائلته كونه لا يعرف له عائلة، فقد وجده أسقف كنيسة “انتقال مريم العذراء” في منطقة المنصور، طفلاً حديث الولادة على باب الكنيسة، فاهتم برعايته وتربيته حتى صار شاباً مبهراً بثقافته وبنية الجسدية وموسيقاه، وبظهور “سمّور” في حياة بطل الرواية سيتعرف القارئ على عدد كبير من كناس العراق وبغداد على وجه الخصوص.
عديدة هي الأفكار التي تتناولها، وقد يكون من أهمها تلك الإشارة التي تدعو إلى تنشئة الطفل خارج مؤسسة المعتقد ورفض الاستسلام إلى قوانينه، هي دعوة إلى أن ينشأ الطفل إنساناً يشعر بإنسانيته، ويمارسها بطعم محبة الآخر وإن كان ينحدر من أسرة تختلف بمعتقدها عنه... المعتقدات والعيش على أسسها قوانينها يشكل العائق الأكبر الذي يعيق نمو إنسانيتا وغالباً ما يقتل الحب داخلنا... وذلك ما تربى عليه “موسى” بطل الرواية وأفراد عائلته، لكنه حين كبر وأحب وأراد أن يحقق أحلامه، اصطدم بذلك العائق الذي غيَّرَ مسار حياته ووأد أحلامه، فاستبدلت مخيلته رمزاً دينياً بفيروزة كان عنواناً للحب في مسار
الرواية.