عدنان الفضلي
كان “عقيل علي” وما زال، يشكل شخصية مثيرة للجدل سواء على المستوى الشعري أو السلوكي، حيث وفي مناسبات عدة يفتح سجال الجدل على هذا الشاعر، الذي رحل في العقد الأول من القرن الجاري، فتارة يشار له بالبنان الشعري والموهبة الفذّة، وفي تارات كثيرة أخرى يكون موضع اتهامات بلا أدلة، على كونه لصا ماهرا في السرقة الشعرية، وهي التهمة التي ترافع عنها كثير من الشعراء والنقاد ورفضوها جملة وتفصيلا.
نترك هذا جانباً ونمضي الى كتاب جديد للناقدة الدكتورة مسار حميد الناصري، الذي صدر مؤخراً عن دار السومري في بغداد بعنوان (تحوّلات الخطاب في شعر عقيل علي)، والذي جاء بأكثر من (250) صفحة من القطع الكبير وتضمن مقدمة وتمهيداً وثلاثة فصول نقدية.
في مقدمتها للكتاب تقول المؤلفة الدكتورة مسار حميد الناصري ما نصه “من يتأمّل نتاج عقيل علي الشعري وخطابه يلمس يقيناً حركته المتصاعدة أبداً، والتحوّلات التي طرأت عليه لا تتيح للبدايات أن تناقض النهايات، وإنّما لترسيخ الصنيع الشعري في الزمن المأساوي المتنامي.
فاضطلعت بدراسة منهجية اتخذت من مفهوم الخطاب منطلقاً أساساً لها في دراسة النص الشعري، وكان شعر عقيل علي في سياق تمظهرات نوعية للتشكّل الخطابي، ما هو إلا تجربة قرائية وتأمل رؤيوي ينفتح فيها مفهوم الرؤية ومفهوم المنهج الى أقصى حد بقدرة متميزة على توليد أعراف قرائية، تنتصر للنزعة الإنسانية الحرة في حلم التلقي”.
وهي تمهّد لكتابها عمدت المؤلفة أو الباحثة الى تثوير التلقي وجعله ضرورة حاجة ماسة للوصول الى لذة القراءة، فهي لا تؤمن بالتلقي الخالي من الإنسانية، ولا ترضى بأن يكون الخطاب المؤسس للنص مجرد خطاب منفرد، خالٍ من الجماعية فهي ترى وكما ورد في التمهيد الذي كتبته بعنوان (الخطاب الشعري المعاصر والخروج من عباءة اللغة “الخطاب يتكون من نصوص تتحد في ما بينها، لتكون رسالة معينة، مرتبطة ارتباطاً فنياً وجمالياً وزمانياً، وتكون هذه الرسالة/ الخطاب محملة بشفرة ما الى القارئ أو المتلقي”.
وفي تمهيد آخر جاء بعنوان (عقيل علي.. ناقوس الأوقات المنحنية)، اشتغلت الناصري على محاولات استدعاء لشخصية وشعرية عقيل علي في آن واحد، فهي هنا كانت ضمن المترافعين عن عقيل علي شاعراً وإنساناً، وبالتالي فتحت هذا التمهيد، ليكون ورقة مرافعة، وكذلك حالة تقصّ عن ظروف عقيل علي التي دفعت به الى المغامرة الشعرية والإنسانية حيث تقول “محنة عقيل علي أنه شاعر وجد نفسه خارج معادلة مهادنة الزمن، ما وضعه أمام نوع من القلق الوجودي والاندفاع المبكر للمغامرة والتمرد والفرادة وغواية الكتابة، تلك التي تحولت من حدوس وانشغالات نفسية ساخطة الى محاولات جريئة في التوغل الى أعماق متن الكتابة الشعرية.
فأدار ظهره لزمن يحيل مفاصل الحياة الى فضاءات خاوية لا تمت بصلة للحياة، وذهب يشذّب ذاته على مقاساته من دون أن يحفل بماكنة التنظير”.
في الفصل الأول من الكتاب والذي جاء بعنوان عام هو (تحولات الذات السيوسيوثقافية وإثبات الهوية) وبعنوان فرعي هو (جدلية الذات والآخر ومفهوم الهوية)، تفتح لنا المؤلفة ثلاث طاولات للنقاش، جعلتها محاور هذا الفصل المبني على ثلاثة أسس هي الذات والآخر والبنية الثقافية، وهي أسس تعتمد عليها الدراسات المعاصرة التي تتبنى الخطاب السيكولوجي مدعوماً بالخطاب السوسيوثقافي، كون الأول يضع الذات في خانة النظام النفسي، فيما يضعها الثاني في خانة النسق المتكامل المتضمن خصائص حضارية واجتماعية وثقافية ونفسية.
في مبحثها الأول “الذات بوصفها مركزاً” تقول الناقدة ما نصه “إذا كان شعر عقيل علي شعر تحولات، فإن أبرز تلك التحولات تتجلى في تحول الأنا الشعرية لديه.
ونقصد بالأنا الشاعرة هي الأنا الحاضرة في التجربة الشعرية والفاعلة فيها، وهو يجتهد أن ينحرف ما بوسعه خارج مسطرة المألوف في الميراث الشعري”.
فيما كتبت في مبحثها الثاني “الآخر في مرآة الذات” تحليلاً مختلفاً جاء في نصه “أكثر ما يميز خطاب عقيل علي أنه لا يصرّح وهو يوجه خطابه الشعري نحو السلطة، وإنما يأتي بقرائن وإشارات وعلامات تدل دلالة مباشرة عليها، ولعله قصد الى ذلك، حتى يعطي بعداً وطابعاً إنسانياً عاماً للمعاناة الإنسانية التي ترزح تحت نير السلطة وقهرها”.
أما مبحثها الثالث “الآخر بوصفه بنية ثقافية فقد جاء فيه “يتوغل عقيل علي في اللغة توغلاً رمزياً يتيح فرصة التصرف الحر بالطاقة التصويرية للغة الشعرية في انفتاحها الثقافي على مكوناتها وأشيائها، ومساحات عملها على النحو الذي تتمخض فيه اللغة في توترها عن بعد إيقاعي يتناسب تماماً مع البعد الدلالي الرمزي”.
الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان (تحولات الذات السيوسيولوجية) مع مبحثين يتوغلان في شخصية الشاعر عقيل علي والأجواء الغريبة والصعبة التي عاشها، كما تحاول الباحثة أو الناقدة أن تسبر أغوار علاقة الشعراء بالسلطات آنذاك واضعة سمة التشكيك كرهان عام، ورافعة لأصابع الشك أمام حراس الأصنام السياسية، في حين تذهب في مبحثها الأول الذي عنونته بـ (الصعلكة وتمرد الذات الشاعرة) الى أن الشاعر عقيل علي كان يكتب هذيانات وعيه الخاص الصاخب بطريقة مثيرة للجدل، وتؤكد أنه يتلذذ بالتمرد على الكتابة القائمة والتمرد على قبائل الشعراء.
في هذا المبحث تقول الناصري “العالم الشعري لعقيل علي لا يقوم على الخيال، ولا يستسلم للواقع بموضوعيته ومباشرته، إنه مزيج مدهش من التعبير، الخيال فيه أكثر واقعية والواقع أكثر خيالاً، عالم يفضي فيه الخطاب بعمق موجع صوب حقائق الواقع بأسلوب وخيال ينصهران ليكتبا شعراً، ولا شيء غير الشعر”.
في المبحث الثاني من الفصل ذاته تخرج الناصري عن ذاتيات عقيل علي وتتوسع في محاولة تقصّي حالات الاغتراب التي يعاني منها الشعراء، الذين يعيشون الحياة على ذات الطريقة التي عاشها عقيل علي، حيث تعدها جزءاً مميزاً من العمل الإبداعي، بمعنى أن الناصري تؤمن بأن الاغتراب يمكن أن يكون سبباً في تفجير الطاقات الإبداعية للشعراء.
في هذا المبحث المعنون (الاغتراب وتجليات التحول السيوسيولوجي) تقول الناصري “لقد وفق عقيل علي في تفعيل الحدث المأساوي، وجعله أكثر تأثيراً في نفسه قبل المتلقي، ووفق في أن جعل علاقته بالشعر لا تنحصر في كتابة نص شعري وإنما تكمن - هذه العلاقة في تعزيز الحضور الكشفي
للشعر”.
الفصل الثالث من الكتاب والذي احتوى على ثلاثة مباحث جاء بعنوان (تحولات بنية الخطاب وضرورات المغايرة) ويحمل بين طياته اشتغالات نقدية مختلفة، فالناصري تركز فيه على مفهوم بناء القصيدة وطريقة عرضها وأسلوب صياغتها وتقديمها، وكيفية التخلص من النماذج البنائية التقليدية، وحتماً هي لا تبتعد عن الشاعر موضع البحث والتقصي، فهي تعود دائماً اليه لتجعله رأس هرم
مختلفا.