سمرقند الجابري: أحتفل مع كل شمس تغيب

ثقافة 2024/05/07
...

 جبو بهنام بابا

الشعر مصدر الحياة الذي يوحي بالفكر، ورسم ما يمكن من أطر تهب كريح الشمال، لينتج نسمة من بهاء وبهجة.. الشعر صورة يرى الإنسان فيها وجهه، وما يظهره واقعه من فرح وحزن، وحتى العلوم هي جهة واسعة من التكوين الشعري، مثل الكيمياء والفيزياء، فضلاً عن مباهج الطبيعة وحللها البهيجة.
 "رابط لأغنية ساحرة" لسمرقند الجابري مجموعة شعرية تأخذنا إلى عالمين من الأحلام والفراشات، إذ تمكنت الشاعرة من تكوين فضاءات بصمت من الذهول في بعض نصوصها، بينما بعضها الآخر بدا من خيالات التشاؤم، واستحال الانتظار والخوف والحلم الذي تتناوله أغلب النصوص: "عن أي وجع تتحدث/  وكل قصةٍ مغمسةٌ بالدم/ أفركها بين اصابعي/ بعكس عقارب الساعة/ بكل صبر وبرودة أعصاب/ وربما.. أغني/ وأنا أكوّر أوجاع الشهر الماضي/ أو كوابيس الشهر الأخير من عام ولّى".  
في أحلامها هوادج غزيرة من خيال تأخذها إلى آفاق بعيدة، ترصد حالات من مفاهيم تتمسك بها. لإيهام أن ما يحدث في الحياة تتنبأ به قبل حدوثه، فعقلها الباطن لغة تتحدث به، وتستشعر وتستعير الحقيقة بمفهومها الخاص، والتي تتبنى فكرها الواسع من بين تمتماتٍ تزخرف نغماتها، متشكلة لوحة فنية مطرزة بسيماء فسيفسائية، فالتنبؤ لغة مرسومة في الغاز نصوصها السرمدية  :"ستحصل هزة أرضية في بغداد/ وتحدث حرب عالمية ثالثة/ ستترك العصافير الكرخ والرصافة/ ونيزك مجنون عاف مساره/ ليضرب بلادي/ نعم ستحصل مجاعات وخلافات/ لأني بعيدة عنك لأسبوع كامل/ صلوا.../ كي أعود لحبيبي بسرعة/ وأجنّبكم كوارث غيابي".
لقد إهتم ادونيس وأنسي الحاج بالتنظير لقصيدة النثر، الذي طال الحديث عنها، فقد بدا على الشاعرة نازك الملائكة التجهم الكثير، لاعتباره قصيدة النثر كشعر، فهي لا تؤمن بهذا  وفقاً لرأيها، بينما كانت الشاعرة خالدة سعيد لا تؤيدها وتقول إن النثر هو شعر, كما ورد في قصيدة الماغوط "حزن في ضوء القمر" وكلٌ رأيه صواب.
إذ لا يمكن الانتقاص من قصيدة النثر، إذا كانت تحمل فكرة وأسلوباً وخيالاً ولغة ترسم في طياتها الإدراك العميق لمفاهيمها السوسيولوجية، ولمغزاها الواقعي، ولصوَرها الحداثوية التي تتبنى رسم واقع مبني بتأنٍّ، في مكامن القصيدة.
فقصيدة النثر لها طريق في الكتابة, وحتى القراءة : "كأنك ضوء/ وكأنك قصيدة حب/ نزلتَ من السماء/ على الباحة الخلفية لشريط الذاكرة/ كأني.. نسيت أن أحبك جداً/ خوفاً على وقتي/ وأضع لك في حقيبتي أحياناً/ تفاحة.. وقطعة حلوى../ وشريطاً لحبوب الصداع".
تجيد الشاعرة لغة الارتقاء في رسم صورة ما، منسوجة من أفكارها الواسعة، لها أحلامها المتبرّجة، وتفكيرها العميق، تتكبّر على الكلمات لتجعل من كل كلمة قصة وحكاية وحديثاً، ولغزاً  قد نستطيع فكّ شفرته بتأنٍ وانتظار على رصيف الوهن، ما هذا الفكر الدامغ في أساطير القدماء وأقاويل شعراء الحب والفلسفة الفكرية، تحسّ أنها ترسم صوراً فوتوغرافية لأماكن تزيّن الإنسان بمباهج رؤيوية، تضيء سماء الإبداع ولغة القصيدة : "أحدّث صورتك الفوتوغرافية / عن يتم قدمي اليسرى / كيف أضعت خلخالاً أهديتني إياه؟ / كيف نسيت حبيباً / كان يغسل وجهي بماء الورد / وحين يدكّ الورد قلب المدينة / يلبسني جواربي/ عشرة أعوام".
تشكّل القصيدة لدى الشاعرة تشكّلاً استثنائياً، يتجاوز البنى التشكيلية التقليدية، وتحقق ذلك من خلال رصيدها الثقافي، الهائل فظهرت القصيدة كأنها لوحة بيكاسو مزخرفة بنوتات موسيقية، بتجريب نثري وشكل بصري، ولاشكّ أن هناك، جهوداً تجريبية مبكّرة:  "بيني وبين المساءِ/ ألف سرٍ/ وسبعون حكاية/ بيني وبين النهار/ تفاصيل تجنيدٍ عسكرية / لذلك/ أحتفل بطقوس استرداد نفسي/ مع كل شمس تغيب".
تحاول الجابري الإفلات من قيود الزمن، والبوح بما في فكرها مبرمجة تلك الصور على شاشة الذكريات، تستغل ذلك الصمت المتعشعش في عروقها، في تمرّد واسع ضد مبادئ ضريبية، ناهية بتجريد يؤم في ثنايا مركزها داخل التوقيت الصيفي، لتنسج لها طوق النجاة وهي تحاول هذا بكل ما أوتيَ  لها من قوة: "من عروق الخوف/ وكل رئة مدهوسة/ وكل صمت أغار علينا ليلاً / واستحل مساحة الصراخ/ قلت للأخوة في غرفة الأرشيف/ ستموتون انتظاراً/ والسأم اشترى كل فكرة للتمرّد مقابل راتب شهري/ يقتطعون منه القرض ومخصصات ضريبية / لحياة لن تعيشوها جيداً/ أعترف بأني لم أنج جيداً/ ولكنني.. حاولت".
تحاول الشاعرة عبر نصوصها القصيرة، أن تتفاءل بلون المطر وعشق البحر، وصدق الأفراح في مواسم العيد، وكأنها تراتيل الربيع، حين تزهر الطبيعة لتفرّح البشر والطيور، وجمال التكوين، وكأنها ذكريات تدور في مخيّلتها، تبحث في الأقدار لتهدي لهذا الكون قصائدَ بطعم المطر وأوشمة زرقاء وخضراء، ووروداً تحلم بها في آخر الليل، بعيداً عن الحب والدخان وكل ما يعتري طريقها:"إنها لا تشعر بالألم/ تلك الوردة في جيب المقاتل / كانت تحلم/ تغني هامسة في منتصف الليل/ للغيمة الهاربة خلف الساتر/ هذه الحرب ليست لي/ خلقت لأعشق".