المتع البشريَّة.. بأيِّ ثمن؟
د. رضا الأبيض/ تونس
تبدو الحيواناتُ أكثر استمتاعاً بالحياة من الإنسان. توفر الطبيعةُ للمتوحشة منها ما تحتاج من متع غذائية، وتتزاوج دون ضوابطَ وتقاليد وتتنقل بكل حرية في المحيطات والصحاري.. أمّا الأليفة منها مثل القطط فهي تسكن مع الإنسان في بيته ولها من طعامه وملاطفاته نصيبٌ..
أليست بهذا أكثر سعادة واستمتاعاً من الإنسان الذي لا يبلغ المتعَ إلاّ بمجهود، بل قد يدفعه ذلك إلى خوض الحروب والتضحية بالنفس وبالأمن؟
في كتابه “ تطور المتع البشرية، رغباتٌ وقيود” استهل شارل كورنريخ Charles Kornreich 1 دراسته بقصة ذات دلالة، تساءل فيها على لسان الأولاد وهم يستعدّون للذهاب إلى المدرسة في يوم بارد وضبابي : لماذا يجب أنْ نخرج في هذا الطقس السّيئ ونعاني زحمة السير، ولا نعيش مثل قطة المنزل التي انزعجت من الحركة ثم عادت تتثاءبُ وتتمدّد على الأريكة؟
من منّا يصيبُ في حياته متعاً أكثر نحن أم الحيوان؟ ولمَ ليس للبشر الحقُّ في الحصول على متعه مثلما تحصل عليها الهِرَّةُ؟
في الواقع، إنَّ المتع التي يسعى الإنسانُ للحصول عليها أكثر تنوعاً من تلك التي تكتفي بها الحيوانات. ولكنْ هذه الكثرة بقدر ما تبرر المجهودَ الذي يجب أنْ يُبذل من أجلها، فإنها أيضاً بابٌ لمشكلات كثيرة ليس أقلها ما يتعلّق بضبط النفس، وبالإدمان.
إنَّ لمتعٍ مثل الطعام والجنس واللعب واللهو .. مركزاً في مخّ الكائنات، سواء بالنسبة إلى الإنسان أو الحيوانات، يخضع للإثارة يسمّى “ مركز المتعة” . لا فرق من هذه الناحية، ولكن، يقول كورنريخ “ في ما يتعلق بالبشر، فإنّ عملية البحث أكثرُ صعوبةً لأسباب أخلاقية”.
هل يعني ذلك إذا عطلنا “ مركز المتعة” في مخ الإنسان كفّ عن طلبها؟ وإذا زدنا في تحفيزها زادت الرغبة واحتدّت؟
يقول كورنريخ: لقد قادت الملاحظاتُ كلاّ من كينْت بيريدج K.Berridge وتيري روبنسونT.Robinson من جامعة ميشغن إلى تمييز جهازيْن على الأقل يعملان على عملية ضبط المتعة. الأول هو جهاز “ الرغبة” الذي يستخدِم الدوبامين كجهاز إرسال، والثاني جهاز “ المتعة” القائم على تكوّنات أفيونية وقنّبيّة داخلية، مخدّراتٍ نفرزها بشكل طبيعي في دماغنا. ومع أنَّ الجهازيْن شديدا الترابط إلاّ أنهما ليسا متطابقين” بمعنى قد نشعر بمتعة دون رغبة أو برغبة دون متعة..
ثمّ إن “ مراكز المتعة والرغبة” ليست محدودةً بدقة كما نظنّ، وليست متطابقة كلَّ التطابق عند الحيوان وعند الإنسان، ولا هي نفسُها عند الرضيع والطفل والبالغ..
لقد تطورت وتغيرت بفعل عوامل كثيرة بيئة واجتماعية...
يقول المؤلف: إن غالبية الثدييات مبرمجةٌ بشكلٍ يجعلها تهتمّ بصغارها، ولكنَّ الحاجة إلى الحب طويل الأمد لدى الجنس البشري هي حصيلةُ الحاجة إلى الإحاطة والرعاية وتأمين الغذاء والحماية ، وذلك خلال مراحل زمنية طويلة. واللعبُ هو نشاطٌ شامل عند جميع الأطفال، وهو ليس وقْفاً على بني البشر، فصغار الهررة تلعب كثيراً. ومن الواضح أنها تقوم بتمرين يهدف إلى إعدادها لحياة البلوغ: المناورات، الاقترابُ وسرعة الحركة والإمساك بالطرائد المتخيلة بشكْل أو آخر. لكنْ لدى أطفال الجنس البشريِّ يُضاف إلى هذا قسمٌ كبير من الخيال. يمكن استخدام الشيء الواحدِ بأشكالٍ مختلفة، وهي خصوصية تتطلب ارتياد عالم رمزي. وهكذا فإنّ ألعابَ الدّوْر الذي يجري تقاسمُه عند الاقتضاء هي استعداداتٌ متطوّرة لعملية التوجّه في العالم الاجتماعي” .
إنَّ من سمات الجنس البشري ما سماه المؤلف” النمو المتأخر” . هذه الخصوصية التي لا نجد ما يوازيها في عالَم الحيوان سمحت بطواعية عقلية أكبر وبالاستمرار في التعلّم طوال حياتنا.
هل يعني ذلك أنه لا وجود لأيّ تشابه بيننا، نحن البشر، وبين الثدييات؟ لا شك في وجود تشابه. ولكنْ في المقابل ثمة اختلافٌ، غير أنه ، يقول المؤلف، ما زال من الصعب تحديده ومعرفة درجته.
فما هي أنواع المتع عند البشر؟
يمكن أنْ تنتج المتعة لدى البشر إما عن حصولِ شيءٍ مُحبّب ومرغوب، أو اختفاء شيء مكروه. وفي الحالتين ثمّة بحثٌ عن “ استعادة التوازن”، وهو بحث يتطور بتقدم العمر، وفي علاقة بالمحيط والتجربة الحسية والاجتماعية..
يضرب المؤلف على ذلك مثالَ الأرجوحة بالنسبة للرضيع وكيف تُستبدل، مع الوقت، بوسائلَ أكثر تطوراً مثل الدراجة ثلاثية العجلات، وعندما يكبر الشخص ويتخذ الجهاز الدهليزي موقعه الفّعلي ولا يعود بحاجة إلى ضبْط ، يحتفظ بعضُ الراشدين بشيء مهم من عملية الرّبط بين الجهاز الدهليزي ومركز المتعة: يستمرّون في طلب ذلك في السّيارات السريعة ورياضات التزلج وأماكن جذب الأحاسيس التي كانت ضروريةُ لتأمين النحو الجيد لتحريك الحافز عند الطفل . وتستمر بعضُ الإيقاعات في التخفيف من الاكتئابِ في سن الرشد، على سبيل المثال الرقص والركض والمشي..”
إنَّ القطط لا ترقص ولا تتأرجح، ولكنها لا شك تضبط جهازها الدهليزي بوسائلَ أخرى مثل القفز والمطاردة. إن إحدى المتع الخاصة بالإنسان الموسيقى. فعلى خلاف الحيوان ينجذبُ البشر إلى الموسيقى والأصوات الموقّعة. ثمة تفسيرات كثيرة لهذا، منها مساهمةُ الموسيقى في تنسيقِ مشاعر الجماعة وترسيخ وحدتِها، ومنها أن للموسيقى دوراً في الجذب الجنسي وكذلك ينجذب الناس إلى الألوان. وفي المقابل لا تعير لها القطط أهمية ..
هناك، إذن، متع حسية كثيرة لا يتقاسمُها البشر مع القطط والقردة وسائر الحيوانات. أما بالنسبة إلى المتع المعرفية والرمزية فهي حصراً بشرية: متعة التعلّم، والرسم والتعاون، والشراء..
إن المتعة في اقتناء الحذاء الذي قُذف به جورج بوش مثلاً أو اقتناء لباس داخلي لمادونا ناشئ عن القيمة الرمزية لتلك الأشياء، والتي لا علاقة لها بالقيمة الفعلية .
نفس الشيء بالنسبة إلى قارورتين من نفْس المشروبات ، تحرك القارورةُ التي كتب عليها “بلدي ومعتق” دائرة المتعةِ أكثر من الثانية التي لم يكتب عليها شيء.. والأمثلة كثيرة على الغذاء الذي يكتب على حاوياته ما يفيد أنه بيولوجي أو محلّي ..
إنّ “الرمزي” خاصية الإنسان. والوصول إليه سمح، كما يقول المؤلفُ، بإنتاج صناعة مزدهرة لما هو مزوّر ، لما ليس حقيقياً مثل الأدب والسينما والتلفزيون..
لقد صارت هذه الوسائطُ قادرة على أنْ تولّد في داخلنا مشاعر قوية.. قد نضحك أو نبكي أثناء مشاهدة فيلم، وقد لا ننام أو نسعد كثيراً بعد أنْ ننهيَ قراءة رواية أو تصفّح مجلّة..
هذه النشاط مثل اللعب، لا يكلفنا كثيراً، ويجري فيه الصراعُ للفوز بما هو مزوّر. إننا نعي أنها صيغٌ خياليّة. ولكن في الوقت نفسِه نشعر فيها بالمتعة إلى حدّ أننا نطلب الإعادة، إعادة مشاهدة فيلم أو الاستماع إلى أغنية أو حكاية خرافية ترويها لنا الجدّاتُ . إنها تتيح لنا أنْ نتعلم ونتكيّف وأنْ نتعرف إلى أشخاص ليست لدينا أية فرصة للقائِهم، وتتيح لنا أن نسافر ونحن في بيوتنا .. وتسمح لنا أيضاً بأنْ نبني سيناريوهات لا نهائية. ذلك هو الفرق بين متعنا ومتع القطط والقردة والثدييات الأليفة ..
إن القطط تسترخي وتتثاءبُ وتحبّ الملاطفات، ولكنها لا تحلم ولا تبني سيناريوهات. ولذلك، فإنَّ متعَها محدودة. في حين أنَّ متع البشر خلال مسيرتهم التاريخية تنوعت وتكاثرت. وذلك، يقول المؤلف، بفضل عاملين اثنين هما: التحرر من الوقت، واختراع الوسائل: تدجين الحيوان، استغلال الطبيعة، استخدام النار، تسخير العبيد..
لنفكر مثلاً في الطعام. ليست المتعة في أنْ نملأ بطوننا بأيّ شيء يسدّ الرمقَ، وإلاّ لما أبدعنا صنوفاً من الأطعمة وأنواعاً من الأواني، أو لما تنوعت طقوسُ الآكل وآدابه وتطورت صناعتُه. كان يمكن أنْ نكتفي، مثل القطط، بالضروري والمتاح لسدّ الحاجة والبقاء على قيد الحياة، ولكن الطعام صار ثقافة وفناً ومتعة.
إن التكرار يقيّدُ المتعة لأنه يُحدث المللَ والانزعاج، ولذلك كان دأبُ الناس التطوير والتنويع. وقد يقيّدُ المتعةَ المنعُ لأسباب دينية أو أخلاقية، غير أنَّ ذلك لم يحل دون خرق الناسِ الممنوع، بل وجدوا المتعةَ في الخرق أقوى وأشدّ. يعبّر عن ذلك قولهم: الممنوع مرغوبٌ
بيد أن هذا اللهاثَ وراء المتعة قد يؤدي إلى السقوط في جحيم الإدمان، وإلى الشعور بالخواء أو الجنون و الموت .. وعليه، مثلما يكون التكرار والتعود مملّا وسيئاً، فإن عدم كبح المتع أيضاً سيء ويشكل خطراً على الفرد والجماعة.
ولعلّ ما يسِم حياتنا اليومَ هو الجوع إلى مزيد من المتع بسبب ما سماه المؤلف”الفائض”، الفائض في الوقت والطاقة والموارد..
وللمفارقة أن هذا الفائضَ لم يحقق لنا “التوازن المنشود” الذي وُعدنا به بقدر ما أربك توازننا وأخل بأجهزة الضبط عندنا.
وعليه، حقّ لنا أن نتساءل: أليست، والحالُ على ما صارت عليه، أليست القطط أكثر ذكاءً منّا؟ لقد ألفتنا، واكتفتْ بما نقدّمه لها من طعام وشراب قبل أن نغلق دونها البابَ ونبدأ،نحن، رحلة الشقاءِ اليومي التي لا نعود منها إلاّ في ساعة متأخرة من الليل لننام طلباً لبعض راحةٍ قبل شروق شمس الغد؟ فغداً تنتظرنا رحلةٌ شاقة أخرى .. ازدحام في الطرقات، طابور طويل أمام الإدارات والمغازات، نتائج سلبية في المدرسة، إفلاس الشركة، تغيرات مناخية وانتشار للأوبئة.، وحوادث أخرى كثيرة نبذل جهداً لنسرق من بينها بعض المتع التي كثيراً ما تكلفنا جهدا ومالاً ، وفي أحيان كثيرة تكون ظرفية وعابرة ..
في كتاب “ تطور المتع البشرية، رغبات وقيود” يقدم الطبيبُ النفسي شارل كورنريخ ، في أسلوب أدبي مرحٍ، حقائقَ علمية ونفسية وبيولوجية واجتماعية تتعلق بتطور رغبات الإنسان ومتعه، وأثر صناعةِ الآلات وتراكم رأس المال في حياة الناس اليومية، وعلى حاجاتهم وعواطفهم التي صارت أغلبُها لعبة تتحكم بها أقليةٌ حولت الأغلبيّة إما إلى ما يشبه الآلات الميكانيكية ( إثارة فاستجابة متوقّعة) أو إلى جيوش المستهلكين أو من العاطلين.. والذين أتاحتْ لهم الأنظمة المعاصرة، أنظمة السياسة والاقتصاد والإعلام..، فرصاً للحصول على متع صنعتها هي لهم ، ولكن بمقابلٍ باهظ وغير مسبوق ليس أقله الانحراف والإدمان..
إنَّ المتعة ضرورية، إنها مسألة حيوية بالنسبة للبشر، تؤمِّن تطورهم الدماغي وتضمن توازنهم وتحفزّهم على الحلم والإبداع والتقدّم .. ولكنْ، أيّ متع تلك؟ من يرسم ضوابطها، الفرد أم المجتمع أم الدولة ورجال المال؟ وأيِّ ثمن ندفع للاستمتاع بها؟
-----
Charles Kornreich, Une histoire des plaisirs humains : Désirs et contraintes
L’Harmattan 2011, 246p.
ترجمة محمد حمّود، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2014، 430ص.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة