بانتظار الحقيقة

ثقافة 2024/05/08
...

أحمد عبد الحسين

الحقيقةُ على مقاس الإنسان وبقدره وبوسعه. وكيف يتعقّلها إنْ لم تكن كذلك؟ وكلما ارتقى إنسانٌ بوعيه أو بحدسه أو بمعلوماته أو بتقنيته صارتْ له حقيقة تلائمه في حاله الجديدة. إنها كالثوب الحيّ الذي ينمو على الجسد إذا نما ويصغر إذا تصاغر. وإذا استعرنا عبارة “توماس ترانسترومر” فإنَّ الحقيقة ـ لا الموت ـ هي التي تأخذ مقاساتنا.
كانت هذه المسألة بديهيَّة عند بروتاغوراس: “الإنسان مقياسُ كلّ شيء”، لكنها اضمحلَّتْ بعد أفلاطون وأفلوطين وسلطان الأديان فصارت الحقيقة مطلب الإنسان مذ صارت خارجه، فوقه غالباً عند المتدينين وفي الأفق الأبديّ الذي لا يُبلغُ عند سواهم. وربما كانت الحقيقة تجلسُ بانتظار نيتشه ليعيد تعريفها: الحقيقة خطأ مفيدٌ ووهمٌ نافع. وهي في خدمة الحياة لا العكس كما ظنّ أبناء القرون الخوالي.
وعلى هذا فالناس أمام الحقيقة اثنان: واحد يريد بلوغها، وآخر يريد استثمارها. الأول يريد أنْ يدركَ الحقيقة لذاتها، وآخر يريدها لنفسه ومن ضمن ممتلكاته. وقبل هيدغر بكثير أيقن المتألهون والعرفانيون أنَّ “الحقيقة انكشاف” وأنها تأتي مصحوبة بدهشة كبرى. لأنَّ “مواضع الحقيقة دهشٌ وحيرة”. وأنها لا معيار لها بل هي ـ بحسب سبينوزا ـ معيار ذاتها، وأنّ أقرب تمثيلٍ لها في الأذهان هو النور الكاشف عن نفسه بنفسه كما يكشف عن الظلمة.
لكنْ إذا كانت الحقيقة تقبعُ خارجاً، أفليس واجباً عليّ تجاوز ذاتي لملاقاتها والتعرّف إليها؟ وأين؟ في البديهيات التي يقول عنها فرانسوا جورج ببلاغة كبيرة: البداهة مهما كانت لامعة فإنَّها تظلُّ تحتفظُ بشيء من الوهم لسببٍ واحدٍ وهو أنَّنا حتى عندما نفكرُ وعندما نتحدث وعندما نستدلُّ فإنَّ الحقيقة بالنسبة لنا ضائعة. إنها لا توجد إلا كمطلبٍ أو أفقٍ. لأنَّنا لا نراها أبداً وجهاً لوجه مثلما لا يمكننا أنْ نحدقَ في الشمس.
هناك يقين بوجود الحقيقة كيقيننا بوجود الشمس، لكننا لا نستطيع أن نملأ عيوننا لا من الشمس ولا من الحقيقة.
مطابقة الحقيقة والشمس وجدتها عند هيدغر “الحقيقة كانكشاف ونور” وهنا عند فرانسوا جورج وعند سبينوزا، لكنّي قرأتها من قبلُ كأبلغ ما يكون في حديثٍ لجعفر بن محمد الصادق: “يا ابن آدم، تريد أنْ تعرفَ ملكوت السماوات والأرض؟ إنْ كنتَ صادقاً فهذه الشمسُ فإنْ قدرتَ أنْ تملأ عينيك منها فهو كما تقول”.
وفي الحديث المسمّى بـ”حديث الحقيقة” والذي يسأل فيه كميل بن زياد علياً: ما الحقيقة؟ ويظلّ عليه السلام يجيبه ويجيبه إلى أنْ يقول له: يا كميل أطفئ المصباح فقد طلع الصبح.
أشرقت الشمس على هذه الهياكل فكشفت نفسها وكشفت العالم فانطفأت المصابيح ولم يعدْ ممكناً التمتمة بشيء.
ويوماً ما، يوماً ما ستأتي الحقيقة على مقاس أناسٍ انتظروها طويلاً واستحقوها.
لكنَّ لهذا حديثاً يطول ليس هذا أوانه!