في توصيف عِلِم الجمال

ثقافة 2024/05/08
...

د. نادية هناوي

قد يتبادر إلى الذهن أن علم الجمال حقل معرفي يتوزع بين حقول معرفية متجاورة، وهذا ما يجعله بِنية متراكمة لا أصيلة. وهو أمر ممكن إن نحن فهمنا علم الجمال من زاوية اعتقادية تقلِّص موسوعيته وتظهره بمظهر أقل بالكثير مما هو عليه في الأساس. إذ أن ثمة خصوصيات معرفية لا يتصف بها سوى علم الجمال، مما يعطيه سمات فكرية لها أكثر من وجهة أخلاقية وقيمة حياتية يتحصَّل منها قدر كبير من المتعة والرضا والمنفعة. ولعل سعة انتشار حدود هذا العلم هي التي تجعله أكثر جزء من أية ثقافة أو حضارة كما أن تنوع غاياته يجعل عملية إدراكه متاحة برحابة الفكر وعمق التصنيف وصدق المنطق وودية التعرف.
إن نفض الرؤى الثابتة والاعتقادات السابقة حول علم الجمال تعني أن نسلك مجرى اللامألوف في الاعتقاد والاقتناع والتسليم. وأمور عظيمة ما حصلت إلا بفعل نفض الغبار عن مسائل طمرت، بسبب عدم البحث أو التفكير في أبعادها. وأي مسلك لن يكون نافعاً ومثمراً وهو يساير غيره في ما هو عليه من الموثوقية وعدم التجريب لأنه حتماً سينتهي إلى العقم والانحراف عن النهج القويم والتعتيم الذي معه لا استنارة ولا تجديد ولا تجريب ومن ثم نظل حتماً مقتنعين بما لدينا من مثل واعتقادات ومعايير؛ فواحدة من أساسيات علم الجمال تتمثل في البحث عن الجذور ونبشها بقصد اكتشاف حقيقتها وعدم الاقتناع بأن ما تركه السابقون ينبغي علينا تقبُّله على علّاته كما هو من دون نقد أو تفكيك وكأن على العقل حجاب يمنعه من أن يرى ما هو خفي ومخبوء وعاطل ومعتم، غير أن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن كل الجذور تصلح للنبش وتفكيك ثوابتها فبعضها له صحة وحقيقي وما من قدرة على الاستغناء عن ضروراته في ما يتعلق بالأديان وفواعلها، إذ أن التاريخية ترسخها جماليات لا يشك في حقيقيتها. وما من جدوى في إعادة الجدل حولها لأن جمالها ناصع لا يُشك فيه. وإذا كانت للأمور الدينية سلطة على العقل فلأن افتراض لا عقلانيتها يقضي على العقل، ويفضي إلى اللاجمال حيث الزيف والأخطاء والأباطيل والجهالة.
إن التفكُّر سمة جمالية؛ فمثلما أنك تتدبر المعتاد وتبحث عن جديد وحقيقي فأنت أيضاً تقرُّ بحقيقة ما هو موجود بجدية وواقعية وقوانين نافذة ومنطقية. والعمل النقدي هو أساس آخر من أسس علم الجمال به تقوم الفلسفة بدورها الاستدلالي والجدالي والإثباتي الاعتقادي البرهاني والاصطفائي بعيداً عن الولاءات والانتماءات والتقوقعات وكل ما هو مأمون ومفروغ منه.
وما ينبغي على علم الجمال أن يأخذه على عاتقه هو التحقيق الجدي والفاحص في ميادين لها صلة بالفلسفة. ولا تقبل الفلسفة بعلم الجمال شريكاً إلا وهو يجتاز عتبة العواطف والحسِّيات ويدخل في منطقة التجريب والتجريد والاختبار العقلي وبوازع حقيقي في البحث الدائب عما هو عقلاني ومبرر ذهنياً.
إن الإشكالية في تحديد ميادين وموضوعات وحدود هذا العلم هي أساس آخر يقوم عليه وجوده المستقل وبه يؤكد أنه مختلف من ناحية وغير مضبوط التوجهات من ناحية أخرى. وشأنه في هذا شأن العلوم الفلسفية التي تختص بمعايير العقل ومسائل الأخلاق وطرائق التفكير وأطر التذوُّق والتجريب وتداول الدلالات واتخاذ المواقف ..الخ.
علم الجمال علم فلسفي ونقد معرفي وحساسية إمبريقية، لذا فإن الغموض والاختلاط والتباين والتضاد أمور واردة وحتمية على مستويي النظر والممارسة. ومسائل هذا العلم ومفاهيمه تدلل على أنه كسائر العلوم، له نظرياته ومنهجياته التي من الممكن أن يعتورها الضمور أو يصادفها النقض والشك أو تتدخل فيها العواطف والأهواء.
وليس في هذا إشكال منهجي يشي بتثبيط الهمم فالمرء قد يعتقد أن العلم الفلاني عويص وشائك لكنه حين يدخله عن وازع ذاتي ونية حسنة، سيجد أن ما اعتقده ليس في محله، إذ أن من أساسيات أي علم بناء منظورات جمالية تتطلب أن نولي مسائله وموضوعاته اهتماماً عبر توجيه الحس النقدي والنزوع الموضوعي باتجاه علمي. وعلى طول تاريخ الفلسفة، دأب المفكرون على ترسيخ الاعتقاد بأهمية أن يكون الحس والنزوع جماليين ومنهجيين كي لا تخون الأحاسيس أصحابها ولا تغريهم المنازع وعندها تقل أهمية علم الجمال وقد لا تكون له ضرورة.
إذن كيفما تكن ناقديتك وحساسية نزوعك، تتحدد أهمية علم الجمال لديك وتكون دراستك له نابعة من مصادر صالحة لأن تنمو وتزدهر وتثمر وتستمر.
إن الاحتجاج لعلم الجمال أمر ضروري واقتضاء التدليل عليه يحتاج إلى فروض واعتبارات بقصد إثبات مدى الصدق أو عدمه في ما يتعلق بمسائل الحياة على تنوعها.
ولعل أفضل طريقة لمواجهة غائية الاحتجاج في علم الجمال هي في المناقشة الجدالية وربما السجالية إن كانت طبيعة الإثباتات مستمرة في ضخِّ حججها والرد عليها بشكل دائم ولا نهائي. وما بين إثبات أهمية علم الجمال ونفيها تكون عملية الاحتجاج لوحدها توكيداً عملياً على أحقية دراسته. إن تفكيرنا في علم الجمال هو كتفكيرنا في الجمال على سعة هذه المفردة ولا نهائيتها ومن ثم لا ضوابط تحول بين علم الجمال والدراسة الجمالية.
وقد ينطبق هذا الأمر على علوم أخرى خرجت من تحت عباءة الفلسفة كعلم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم بلاغة اللغة وغيرها. وما دامت المناهج في تطور مستمر فإن العلوم تستمر في الظهور والتلاشي والبزوغ والنضوب. وأكثر المناهج قدرة على الصمود بوجه الاحتجاج هي التي بها تتأكد غائية العلم.
وهارمونية علم الجمال تمدُّه بالتجدد والإضافة المستمرة مع أن تاريخ نشوئه ليس ببعيد لا يتجاوز القرنين تقريباً ولكن نظمه عصرية في علاقتها بالتحضر أولاً، وأخلاقية في علاقتها بالإنسان ثانياً، واجتماعية في علاقتها بالدين والإنثروبولوجيا ثالثاً.
ولا نكاد نجد ميداناً من ميادين حياتنا إلا لعلم الجمال به صلة؛ فالجمال مراتب ولكل ميدان رتبته الجمالية الخاصة. بهذا تكون حقيقة علم الجمال هي في أهمية الاحتجاج له وتوكيد فروضه وأبحاثه التي لها مكتسبات معرفية تتصدى لإشكاليات راهنة بطريقة شاملة وتخصصية.
وليس شرطاً أن يكون دارس الفن مثل دارس الجمال لأنه لا يستلهم نشاطاً يمتحه مما لديه من موهبة وما يتمتع به من احتراف فيكون خبيراً في دقائقه حسب، بل يمكن له أيضاً أن يمارسه ناقداً وباحثاً ومفكراً يشتغل على مسائل تجريدية تتعلق بالقيم المعنوية والأفكار النظرية. وليس في ذلك هو قاض أو حاكم أو مقوُّم، بل هو متلقٍّ هاوٍ يرغب في التقاط ما يستطيع التقاطه من جماليات يوصلها إلى القراء. فالعظمة في الجمال ليست إطلاقية ولا هي بالعكس أي ميؤوس منها إنما هي نسبة وتناسب لا تعرف الإطلاق كما لا تعرف الانعدام فمقاييس الجمال ليست فهرنهايتية أو مئوية إنما هي مقاييس إنسانية تتغير بمعقولية تغير الظروف وتبدل المواقف وتنوع الأزمنة والأمكنة ومعها تتغاير الطبائع الفنية وقيم الجمال فيها.
والغالب أن معظم الباحثين في علم الجمال يحرصون على توضيح هذا التبدل في معايير القيمة الجمالية ومدارك تقييمها وهم يفعلون ذلك بمقاصد ودوافع قد تكون ذاتية أو موضوعية - أياً كانت ضمنية أو مباشرة- سائرين على دروب الفلسفة نقداً وتصويباً، حريصين على الموضوعية ومستندين إلى مناهج ونظريات، تمكِّنهم من امتلاك جهاز مفاهيمي يسهل عمليتي التحليل والتقييم.  
إن فروض علم الجمال هي مثلها مثل العلوم الأخرى لكن ذلك لا يمنع هذا العلم من أن يحلِّق في متاهات اللاعلم باحثاً، لا عن إثباتات لفروض بعينها حسب، بل عن حقائق لا تحتاج فروضاً وإثباتات أيضاً. ومن يجهل الفاصل الحيوي والدقيق بين فلسفة الجمال وعلم الجمال هو كمن لا يفقه أصل الشيء من فرعه وفرع الشيء في اتصاله بأصله. وصلاحية الأول للثاني هي كاختلافية الثاني عن الأول. إنها جدلية فكرية؛ جزء منها فني، والجزء الآخر علمي، وهي تنطبق على مختلف الأعمال الفنية مثلما تنطبق على مختلف الفروع المعرفية ذات المعايير والأنظمة والأحكام القارَّة والمتغيرة.