النبرة الملحميَّة في {العائدون إلى المنافي}

ثقافة 2024/05/08
...

علي كاظم داود

تحفظ لنا الذاكرة الأدبيَّة لوناً قديماً من ألوان الشعر الإنساني، يعتمد السرد بنيةً أساسية في تشكيل قصائده، ويتخذ من القضايا الكبرى والوجودية والمصيرية موضوعات لمتونه، ألا وهو الشعر الملحمي، الذي يقوم على الأسلوب الحكائي في تكوين عوالمه الشعرية، حتى عدّه بعض النقاد نظماً لا شعراً، ومنهم محمد غنيمي هلال، الذي قال في كتاب النقد الأدبي الحديث إنَّ الملاحم «لا تُعدّ شعراً إلا في ما قد تحتوي عليه من بعض المقطوعات الغنائية».
في الشعر الحديث يمكن أن تحضر النبرة الملحمية، نشعر بها ونراها، تتجسد في أجواء خاصة تتلبس القصيدة وتحيط بها. فالملحمة القديمة هي قصيدة واحدة، منظومة، مطولة، تحكي قصة شعب، أو بطل خارق منقذ، أما اليوم، بعدما غابت القصيدة المطولة، وانحسرت حدود القصيدة كثيراً، لم يعد بالإمكان إلا تلمّس ملامح حضور الظاهرة الملحمية في الشعر والكشف عن بصماتها وآثارها.
صحيح أنَّ فنَّ الرواية قد يكون هو الأجدر حاليًا بتمثيل الفن الملحمي، فهي الوريث الشرعي للنصوص المطولة القديمة، كما يقول النقاد والباحثون، إلا أنَّ الشعر المعاصر قد نجح أيضًا في أن يحاكي ذلك الفن، ويستدعي وقع الملحمة وأجواءها في ثنايا القصائد، والمجموعة التي بين أيدينا خير أنموذج لهذه الظاهرة.
يمكن الإنصات إلى النبرة الملحمية في مجموعة الشاعر السوري (فريد ياغي) المعنونة بـ (العائدون إلى المنافي)، والصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، من خلال العديد من القصائد والمقاطع التي استثمرت النَفَس الملحمي للإعلاء من قضيتها المركزية، وتحقيق غايتها الشعرية.
ومنذ العنوان تستدعي المجموعة فكرةً مهمةً، ملحميةً، هي الهجرة الجماعية للشعب السوري، بعد نشوب الحرب الداخلية. فبدل العودة إلى الوطن، اتخذ الناس طريقًا معاكسًا، وأخذوا يعودون إلى المنفى، مرةً بعد أخرى... كأنهم قد أضاعوا طريقهم إلى ديارهم، والأسباب باتساع المخيلة. فقصائد «العائدون إلى المنافي» تحكي ملحمة انكسار شعب، وتعرضه للتهجير والنفي شبه القسري، بفعل العنف الذي اجتاح أرضه وخرّب بلاده، وما تزال آثاره تتفاقم حتى اليوم.
ولعل من المفارقات اللافتة التي يمكن الإشارة إليها أنَّ الشاعر نفسه، وبعد صدور مجموعته هذه، أصبح واحداً من العائدين إلى المنافي، أو الهاربين من جحيم الأوطان، حيث التحق بحشود العابرين للبحر نحو بلدان أوروبا، بحثاً عن الحياة الآمنة المستقرة. ولهذا نجد تجسيداً حياً للتجربة الشعرية في سيرة الشاعر، وانعكاساً لآلام الشعب وآماله الكبرى في ذاته. فقد عاشها شعراً قبل أن يعيشها واقعاً. إذ يقول في قصيدة بعنوان (جراحات طوق الحمامة):
«لا شيء غيري...
غير خطوات تُرتبها قناديل الشآم على حدود الروح»(ص28).
فيكشف عن شدة الولع بالمكان، والصلات الروحية الوثيقة به، فلا شيء غير الشاعر، وهو تجلي الجموع في الفرد. الجموع التي ينصت لوقع خطاها وهي تعبر حدود الشام وسوريا وحتى لجج البحار، في ليل تضاء فيه قناديل الخوف. الخوف من الحرب الطاحنة التي استلبت الأمان من هذه البلاد:
«الشام نائمة كتلميذ صغير باكراً
والقلب يضبط نصف إيقاع الحياة
على رتابة حربهم»(ص29).
فالوطن الذي يحمل براءة تلميذ، لا يمكن أن يحمي أبناءه من براثن الحرب، فلا مناص من التخلي عن شغف القلب بالمكان، والانصياع لغريزة البقاء. فلم يعد القلب قادرًا على احتمال هول الحرب التي أصبحت أمرًا رتيبًا ومألوفًا.
تتراءى في القصيدة ملحمة الشعب الذي تلقّفه الشتات، وتوزّعته المنافي والبلاد الغريبة، فترتفع أصداء المأساة الكبرى، التي غدت مثل فصل أجرد لا يسقط الأوراق عن أغصانها فقط، بل يقتلع الأشجار الراسخة من جذورها:
«أمشي... وملحمة الخريف تسربت نحو الفيافي كاللحون المعتمات
وعلى الرصيف توائم المدن التي صارت محافل أمنيات
طارت طيورك يا شآم ولم يزل ذاك اليمام على شبابيك المنازل
رافضاً لغة الشتات
شفقٌ بعيدٌ لاح من باب المدينة ثم ضجّ بشهوة الحلم الأخير
لكي تطلّ ملامح الألق الغريب على المدينة»(ص30).
فالشعب صار مثل أسراب من حمام السلام الهارب إلى مدن الربيع، التي أصبحت أمنيته، بعدما اجتاح الخريف مدنه، فالشتات لم يكن خيارًا بل أجبرته عليه الظروف القاسية، فتبع الشفق البعيد تاركًا مدنه لمصيرها. يتقدم الشاعر شعب المهاجرين، ماشيًا نحو المدن الغريبة، جسدًا لا روحًا؛ لأنَّ روحه بقيت معلقةً على شبابيك منازل الشام، التي سكنتها العتمة، على أملٍ في العودة يومًا ما. لكنه لا يدرك تمامًا أين سيؤول به المطاف: «ها أنت تخرج هائماً من شامك الصغرى إلى شام الضياع» (ص33). فقد ترك هذا الشعب الأرض التي ولد ونشأ فيها وأحبها وعمّرها، إلى مصير مجهول، في أرض شاسعة لا يعرفها، قد تؤدي به إلى الضياع؛ لأنَّ أرضه قد استحلّها الخراب والهلع.
مما يحزن أيضًا في ما حصل للشعب السوري الذي اضطر إلى الهجرة والشتات، أنه يترك خلفه حضارته وإرثه وتاريخه، لأيدي العنف الشرسة، التي عاثت فيه دمارًا وتخريبًا، ويشير فريد إلى ذلك بقوله:
«ها أنت تبكيك الحضارة والمراكب حين تقتحم المعاني في كنايتك الكئيبة» (ص34).
الشعر لا يمكنه أن يرمم ما تكسّر في القلوب، أو أن يصلح ما تهشم من صورة الوطن، فتغدو المعاني الشعرية والعبارات البليغة عاجزةً أمام آلة الحرب والدمار والقتل، وتبقى النفوس تتجرع غصص الفجيعة، وتشاهد المآسي، دون أن يكون بمقدورها فعل شيء، سوى التذكر والحنين: «سيردها نزق الخيال النرجسي إلى الحنين» (ص42). فالشعور بالغربة يطغى على سواه، وهو ما يتجسد في قصيدة (من أغنيات التشظي) إذ يقول الشاعر:
«أنحاء هذي الأرض تقتلني
تشدُّ وثاق ملحمة التغرب
نحو أمنية الغريب» (ص44).
إذ تغدو الغربة في هذا المقول الشعري معادلًا موضوعيًا للموت، ولا يبقى للغريب في هذا المأزق إلا التمسك بحبل الأمل بالعودة إلى أرضه البعيدة التي غادرها مكرهًا، فهذا هو سبيل النجاة الوحيد من مصيره الحتمي. وهو مصير يحاصره قلق الغياب والمحو والهزيمة، نجده ينعكس أيضًا في قصيدة (مرايا الحرب المهشمة):
«سيخرب الغازي نبات الحب يقلع عابثًا غرسًا فغرسا
سيهد صرحك في بساتين التذكر
ثم يحيي صرحه وكما بنيت الصرح يبنيه
وتصبح أنت أطلالًا.. وتُنسى» (ص63).
فالقصيدة مشغولة بالصراع مع الغزاة، الذين أتوا لتدمير صروح الحضارة والمدنية لهذه الأمة، والعبث بمنجزاتها وتراثها، والعودة بها إلى عصور الهمجية والظلام، والعمل على تغييب ثقافتها وتاريخها من ذاكرة الإنسانية. وربما يكون هذا الأمر من أقسى المشاعر وأكثرها تهييجًا لحزن الشاعر والإنسان المنتمي لتلك الأرض، أن يرى نفسه مهددًا بالنسيان والاستبدال. هذه الهواجس تشيع في غالبية نصوص المجموعة، إذ نقرأ في قصيدة أخرى، خطابًا يتجه للفرد أو للشعب الذي تلقفته الدروب العابرة للحدود:
«تعتلي ظهر الدروب وتمّحي
ويعيدك التكوين حرفًا من حروف اللغز
يحيا في حدودك
وبهِ ستفنى في خلودك» (ص85).
في هذا الاقتباس يرتفع صوت الشاعر، الشاهد على الملحمة، مخاطبًا المتلقي الضمني، الكامن في النص، والمستتر خلف ذهوله، والعاجز عن تغيير الظروف التي دفعته بعيدًا عن الوطن، فتلقفته المنافي، وبات مهددًا بالمحو والفناء والنسيان والضياع في لغز كبير استدرج إلى أتونه على حين غفلة. فهذا المتلقي الصامت المدفوع قسرًا للمشاركة في الحدث، هو أكثر المعنيين به، وأول المتضررين منه. لكن الشاعر يفتح له في هذا الضياع والفناء بابًا يؤدي إلى الخلود، تلك الغاية الأسطورية التي تسعى إليها البشرية، وتكافح من أجلها دون جدوى، فجسّدتها الملاحم القديمة، وانشغل بها تفكير الإنسان على مر العصور.