لِمَ خُلقَ الرجلُ أولاً؟

ثقافة 2024/05/08
...

عبد الغفار العطوي

تنقسم هذه القضية(من خُلق أولاً في هذا العالم؟)  بين نظريتين  تحتلان حقبتين من التاريخ  البشري، النظرية  الأولى، وتقودها الديانات  التي  تدّعي في شيء من فرض الغموض   والإبهام والتعتيم  إنها  تمثل حقيقة  لا تقبل الشك بالرجل  الأول  المخلوق قبل البشر (في صورته المادية الجسمانية) وتعلق النظرية الثانية التي تمثلها الحركات النسوية خصوصاً، في ما يتعلق بمن  يقف في عملية الخلق الرجل(الذكر) أم المرأة (الأنثى) في المرتبة الأولى، ولحل  النزاع القائم بين هاتين النظريتين يذهب الإنثثربولوجيون، ومعهم السوسيولوجيون إلى أن البشرية مرت بحقبتين  من تبنّي فكرة (الخلق أولاً) في تاريخها المُنهك الحافل بالصراع  بينهما (الذكر والأنثى) فاتفقوا على أن الحقبة الأولى  شهدت  هيمنة (الخلق أولاً) بالنسبة للمرأة، وأطلق عليها الحقبة الأمومية، وتاريخها غير معروف  ولا مضبوط، لكن ما يمكن تقديره بالآلاف من السنين، قبل تدوين التاريخ (3000) قبل التاريخ، لوحظ أنه يتطرق إلى أن الأنثى هي الأصل (الآلهة ) التي خلقت هذا الكون، بما فيه البشر، ثم تراجعت  الفكرة، لتحتل فكرة ا(الخلق أولاً) لتكون من نصيب الرجل في الحقبة الثانية مع اكتشاف الزراعة (1000) قبل التاريخ، حيث الهيمنة الذكورية  ما زالت حتى الآن، وكانت هذه الهيمنة قد وجدت  دعماً  لها  ببروز الخالق المنفصل (المتعالي) الذي  اتسم  بالشموليانية  واختراع الوسائط المتعددة التي  تجعله بعيداً عن الأنظار(من ضمنها اللغة) في حين كان من قبل قريباً  منظوراً (في التماثيل والمنحوتات) لهذا نجد أن هذا الخالق (الإله) قد أمرأن يكون الرجل على شاكلته، وكلفه أن ينوب عنه في سياسة العالم، وأعطاه صفات  القوة  والرجولة  والذكورة، والقول هذا  لم تعبِّر عنه سوى الكتابات الخفيِّة غير الواضحة التي  يعتقد أنها مختلقة  من أخيلة الرجال، ولم نجدها في الأصول، كما صرح بذلك علماء الأنثربولوجيا  والسوسيولوجيا الذين بحثوا  في خفايا متون الكتب المقدسة (التوراة والأنجيل) وسنجد بيار بورديوفي (الهيمنة الذكورية) يفند تلك الهيمنة بكتاباته المدهشة، ونلحظ ردود الأفعال التي ناقشتها بعض النسويات المعاصرات في كتاب (نقض مركزية المركز) في اجتراحات  الفلسفة  من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري  ونسوي، وقبل هذا ما طرحته الفيلسوفة والكاتبة النسوية سيمون دوبوفوار في كتابها الكلاسيكي (الجنس الآخر الوقائع والأساطير) في جواز مبررات الأولوية في الخلق، في مدى وجاهته في خلق عالم لا يقبل التعددية الجنسية، ونستطيع القول إن الجدل قد نشب بين الأديان الثلاثة حصراً، التي رفعت الخالق (الإله) فوق قدرة المخلوقات جميعها (اليهودية والمسيحية والإسلام) وبدا أن الرجل  المؤمن بها قد وجدت ضرورة أن تكون الخلقية له أولاً، رغم أنه لم  يجد ما يؤيد زعمه، وإن المتون المقدسة (التوراة والإنجيل والقرآن) أعطت الأولوية المعيشية للرجل (قصة خلق آدم) ويرجع علماء الأنثربولوجيا في اشتباه (أُسطورة خلق الرجل أولاً) في بعض منزلقاتها إلى بنية اللغة التي أسهمت في دربكة الوضع، وبدا أن (خلق الرجل أولاً) قد درجت في ثقافات البشرية بسبب العصور القديمة الصعبة، كما أوضح جورج فيغاريلوا في (تاريخ التعب) التي تطلبت صورة الرجل في الأولوية، لكن استغلال الرجل هذه الفكرة والإساءة للمرأة هوالذي أدى إلى تذمر المرأة والثورة الناعمة في وجهه،لكن سيمون دوبوفوار  في (الجنس الآخر) هي التي أوقدت نار الحرب ضد فكرة خلق الرجل أولاً، فقد هاجمت هذه الفكرة في كتابها الخالد (الجنس الآخر الوقائع والأساطير ج1) الذي صدر عام 1949 بعد أن مهدت له  لاحقاً بكتابات متفرقة(جمعت بعدها في الكتاب  تحت اسم مقالات) وهاجمت سيمون دوبوفوار  من ينتقص المرأة ويضعها في المرتبة  الثانية كجنس آخر، وكان صدى مذكراتها(1958 - 1972) التي أبرزت ما في حياتها وعملها الأثر الفعال في استقبال  فلسفتها النسوية، وعُدَّ كتابها (الجنس الآخر) المرجع للحركة النسوية العالمية، وتحدثت عن المرأة، لما أدركته من السخط  بما يخص موضوعها، متصورة أن وقوف الرجل في المقدمة لا يعني شيئاً بالنسبة للحقيقة، فمهما قيل عن أسباب تفوُّق الرجل في المكانة البايولوجية  والجسدية، فإن ذلك لا  يغير من واقع الأمر، فالهويات التي تجعل من الجنسين موضع خلاف (الذكر والأنثى) ليس له مردود يذكر في عملية التفضيل بينهما، فالنظام الرمزي متشابه في التمييز الجنسي، وإن للمجتمع الدور السلبي  بتدنّي منزلة المرأة، في تحكُّمه في مصادر القوة  التي رسختها اللغة التي  خلقت الاختلاف بين الجنسين،فمصير المرأة  لا تحدده هي بل الرجل في اختلاقه للمعطيات التي تمنحه الأفضلية الوهمية، ورأى  أن يمارس ثقافته التسلطية، ومن  الطريف من بورديوأن  قام يوجه ما  بالوقوف  ضد التعارضات التقليدية التي تطرحها سيمون دوبوفوارالتي صارت قديمة، في ما بعد النسوية (1990) إلا أنها تتكئ على محاججات فلسفية ومنطقية، في أن المطلوب من القول بمعنى (الخلق أولاً) لا يجري في معنى الخلق  سوى  وعي الإنسان بأن لا تمايز بين الجنسين يؤدي نحوعملية المفاضلة، وأن (الهيمنة الذكورية) لا تصنع حاجزاً ثقافياً، ولعل عالم الاجتماع بيار بورديوفي (الهيمنة الذكورية) يذهب أبعد مما قامت به سيمون دوبوفوار في تفنيد مفهوم الهيمنة التي تنتسب للرجال، ليطرحها  باعتبارها (صورة مضخمة) ويعلق في أنها من صنع التاريخ الذي يقوده الرجال (وتُسهم مع الأسف النساء في تضخيمه وفق الحقيقة) فالجنس هوعبارة عن نظام رمزي يتقاسمه الرجال والنساء، بل  يغالي بورديوفي إدهاشاته، ففي رسالته التي وجهها في ملحق كتابه هذا  (بعض الأسئلة حول  حركة الرجال المثليين  والحركة السحاقية) يعلق فيها إن نتائج(الهيمنة والحب – ملحق) هي من انحرافات تلك الهيمنة الوهمية للرجال، وربما لوانقلبت الآية، ربما لن تقدم النساء على تضخيم نسويتهن، مادام الشيطان ذكراً ويمتلك طرق الإغواء الصعبة، لكن الحركة النسوية اكتفت بكتابة إطروحاتها بواسطة نسويات رصينات أكاديميات في حل أعقد معضلة تواجه الفكر النسوي  ما بعد استعماري  التي تلخَّصت بنقض مركزية المركز( ت اوما ناريان وساندرا هاردينغ)  يؤكدان فيها(10 كاتبات اجتمعن في تأليفه)   جانباً  من التفكير  ما بعد- الحداثي يتجسد  في فلسفات  تودع المركزية الغربية وتوصد وراءها  الأبواب وتنفتح للتعددية، من حيث تودع ما ساد الحداثة من حتمية ميكانيكية  و واحدية مادية الخ