لغة بصريَّة ممشوقة في فيلم هالة العبد الله { أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدة الشعر}

ثقافة 2024/05/08
...

وداد سلوم/  سورية

خصص معرض الفن الحديث في باريس بعنوان حضور عربي، جناحا للمخرجة السورية هالة العبد الله التي اختارت العمل في ميدان الأفلام الوثائقية، وهو النوع القليل والصعب والمهمل في بلادنا العربية.
“ أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدة الشعر “، كان عنوان فيلمها التسجيلي الأول الطويل، وهو مقطع شعري للشاعرة السورية دعد حداد التي انتحرت في تسعينيات القرن الماضي تاركة خلفها حسرة الشعراء، كما عبَّر الشاعر نزيه أبو عفش في حديثه عنها في الفيلم، إذ طالما، بحسب قوله، كان يقرأ أشعارها كما نشيد الإنشاد.

توثق هالة في بداية الفيلم سبب اختيارها العنوان، قائلة إنها كانت تحلم بمشاريع كثيرة أولها فيلم عن حياة وتجربة الشاعرة دعد حداد، وبعد أن شعرت بمرور الزمن أرادت أن تنفذ كل تلك المشاريع دفعة واحدة في فيلم تنهي فيه حالة التأجيل المستمر، على أن تكون حداد ملكة هذا الفيلم.
نال الفيلم جوائز عديدة (جائزة اتحاد الوثائقيين الإيطاليين عام 2006 في مهرجان فينيسيا الدولي، وجائزة المهر البرونزي في مهرجان دبي الدولي، وجائزة الصقر الذهبي للفيلم الوثائقي في مهرجان روتردام، والجائزة الذهبية للاختيار الرسمي في مهرجان تطوان السينمائي الدولي)، وشارك في مهرجانات كثيرة، إلا أنه لم يعرف على المستوى المحلي إلا منذ فترة قصيرة بعد إطلاقه في اليوتيوب بسبب منعه.
 كانت حداد في شعرها تحكي “بلاغة الألم “، ولعلنا بذلك نلمس الخيط الخفي الذي أرادته هالة العبد الله رابطاً لمفاصل الفيلم؛ البلاغة التي ليس الزمن والعمر المسروق من الشخصيات أولها، ولا تجربتها في السجن السياسي آخرها، ولا تلك المساحة الواسعة من عالمها المفرودة أمامنا بكامل القهر تكفيها.
 يبدأ الفيلم بصوت هالة الهادئ التي تشرح عن فيلمها وحلمها، ثم تنتقل إلى شخصياتها وصوت البحر والماء المتدفق / الزمن/ العمر، على خلفية صوت الغربان.
خمس نساء، ثلاث منهن عشن تجربة السجن السياسي في مواجهة الكاميرا التي تسقط على وجوههن كالمرآة، يتحدثن عن أفكارهن وتفاصيل من حياتهن، ليلم صوت هالة الحكايات كما لو أن صوتها الدافئ وكاميرتها يوازيان فعل يد خبير الآثار الذي يوضح طريقة عمله في الفيلم، حين يمسح السخام عن الأيقونة كاشفاً تلك المساحة المضيئة في الصورة، هذا ما كانت تفعله هالة مع شخصياتها، بين الأسئلة والصمت وبين الاعتراف ومواجهة الذات، لنلمس معها ذاك الخراب الذي تركته الأيام في الأعماق عبر قساوة التجربة. تأخذ بطلاتها إلى النبش والبوح، فتسيل الاعترافات بحجم الغربة والخواء الداخليين اللذين تركتهما المعاناة وتلاشي الحلم كما تسيل الدموع، وبالصدق الذي يكشف في ذات اللحظة ما يقوله .  
 لا تترك بطلاتها وحيدات في ساحة الاعتراف، بل تشاركهن ذلك وتروي تجربتها الذاتية، بدءاً من الأحلام والمشاريع المؤجلة، إلى تجربة سجنها وعلاقتها مع يوسف عبدلكي الرسام السوري المعروف وزواجهما. والدته هي إحدى نساء هالة، تحكي قصة الجدة الأرمنية التي نجت بأعجوبة من مجازر الأرمن وهي طفلة، إذ خبأها بدوي في عباءته وأخذها إلى الدار, لتكون الناجي الوحيد من عائلتها كاملة، تلك الوحدة طبعت حياتها وانغرس الألم في تفاصيلها، بذاك الطعم الحاد العالق في فمها، ما أورثها العزلة والصمت، ذات الصمت الذي نراه لدى شخصيات هالة الأخرى كتوأم  للألم  الداخلي.
  تقول إحدى الشخصيات: نحن نستحق حياة أفضل.
 تقول فادية: لست حاقدة، لكننا نعيش الألم؛ كلٌ على طريقته، فهو إحساس ذاتي محض، وقد عجز العلم عن تعريفه وتحديده.
تقول الدكتورة النسائية، الشخصية الثانية: أعيش السعادة مع كل ولادة: فأن تمسك طفلاً وتأخذه للحياة شعور لا يقاوم بالسعادة والحياة.
تقول رولا: لا يوجد أمان، الأمان مفقود.
 تعيد هالة بطلاتها إلى قبل خمسة وعشرين عاماً، لنجد ذلك التشابه في المرارة لديهن، والحسرة عند إدراك حجم التغيرات، فالزمن كالألم يحفر بصمت. يقف  يوسف عبدلكي أمام لوحته، حيث يظهر في المساحة الواسعة من البياض قرن موز مهترئ وقد ظهر عليه  التلف، ينظر إليه يوسف بتمعن كأنه يرى فعل الزمن في الوجوه.
ومن بلاغة الألم الإنساني، إلى خيط الزمن، إلى كشف الجوهر الثمين في النموذج الذي اختارته، فكل امرأة من نسائها أيقونة لطختها المعاناة بالسخام، لكن جمالها الداخلي بقي لامعا لا يبدو إلا لمن يلمسه، تجمع هالة العبد الله تلك الخيوط بمهارة مؤثرة في المشاهد الذي يشعر بأن هناك ما لامسه.
تعيد لنا قصة جزيرة أرواد الخالية، إذ تركها العثمانيون ليتسلمها الفرنسيون، لكن طفلاً صغيراً بقي فيها، وحين اكتشف فراغ الجزيرة من المحتل ركب أحد المراكب وذهب نحو العالم، فهل نتمكن من قيادة مراكبنا إلى الشواطئ التي نرغب حين نملك دفتنا، إنها دعوة هالة إلى التغيير وإلى امتلاك لحظة القرار، كما فعلت حين أرادت تخفيف حمل اكتافها من المشاريع فبدأت.
وهل نستطيع امتلاك الخطوة الأخرى؟ يبقى الجواب داخلنا، فهذا يبدو ذاتياً محضاً كالألم.
الفيلم تسجيلي طويل اختصر تجارب ربما يحتاج كل منها إلى فيلمه الخاص، لكن المخرجة تمكنت من وصل الشخصيات بتركيز عال، فقدمت للمشاهد فيلماً محرضاً لكشف الذات والأحلام، وللتعاطف مع القيم الإنسانية السامية والتمسك بها رغم الحرمان أو قسوة التجربة كما في السجن .
ظهر يوسف عبدلكي كإحدى الشخصيات الرئيسية وكشخصية محببة ومرحة وكأب وابن.  وما اختياره للوحة التي يود أن تكون لوحة الختام في فيلم حياته. سوى تأكيد على ذلك الانسجام الفكري والعاطفي بين الشخصيات ومقولتها.
برعت هالة في تصوير المشاهد الخارجية، ليس فقط أثناء الحديث، بل حين يكون الصمت، وحيث تكون الحركة ممتلئة بالتعبير، كما برعت في استخدام كاميرتها للاقتراب من الشخصيات والتقاط حركاتها الصغيرة والمعبرة، كمسح دمعة أو الإجهاش بالبكاء بتلقائية لا تحتاج إلى تبرير.
الفيلم باللون الأبيض والأسود، وهو ما يضع المشاهد في مواجهة الذاكرة، فالماضي دوماً له لغة القديم وأدواته التعبيرية، وربما للتركيز على العلاقة بالذاتي ورصد المناخ النفسي للشخصيات وعلاقتها مع المحيط، يذكرنا ذلك بفيلم :
 The tragedy of makbeth للمخرج joel coen الذي صوره بالأبيض والأسود، وقد برع برصد العالم الداخلي لشخصيات مسرح شكسبير في مسرحيته الشهيرة ماكبث، وعالمها النفسي وصراعاتها، وقام بمسرحة مواجهة الأبطال مع ذاتهم بشكل مختلف ولافت، في تناول النص الشكسبيري المهم والرائع.
كثير من اللقطات تستوقف المشاهد، كظهور يوسف عبدلكي وهو يعمل على لوحة رأس السمكة في صحن، وبقيت عينها مفتوحة كشاهد.
ولقطة الطريق إلى القامشلي، حيث نرى الأشجار مجزوزة الرؤوس.
 أو كاتالوج القصاصات التي كانت رسائل السجناء إلى العالم.
أنجزت هالة العبد الله سبعة أفلام طويلة، وثلاثة أفلام قصيرة، ورسخت اسمها كمخرجة سورية مهمة بعد فيلمها الأول، بعنوانه الشعري، ولعلها أرادت أن نحمل الزهور ونقف على أحلامنا الفائتة للانطلاق نحو القادم الأجمل.