أندريه مالرو
نحن أمام الإسباني تابيس، الذي علم نفسه بنفسه في سلسلة طويلة من التجارب التي لم يعرف خلالها الملل، بل كان شغوفًا باستخدام المواد غير التقليدية وغير المألوفة في إنتاج أعماله الفنية، والذي غالبا ما كان يخلق أسطحًا سميكة مبنية من غبار الرخام والطباشير والرمل والتراب بشغف وابتكار، لدرجة أن يكتب أحد النقاد في تناوله لأعمال أنتوني: “يبدو أن هذه الأعمال الفنية لم يتم رسمها بقدر ما تم التنقيب عنها ...” إذ أصبحت طريقته في التلاعب والخدش وشق العلامات الغامضة على سطح أعماله، أسلوبه المميز الذي عزز الصورة التي تظهر أعماله بما يشبه اكتشافات للأشكال البدائية التي تعيدنا إلى رسوم الكهوف في غابر الأزمنة، والكتابات الاحتجاجية على جدران شوارع برشلونة المضطربة سياسيًّا في زمانه. على الرغم من تأثر هذا الفنان بالسريالية - لا سيما من خلال صداقته مع زميله البرشلوني، خوان ميرو، إلا أن تركيز تابيس على المادة الخام التي تتكون منها أعماله، يربطه بالحركات الفنية لما بعد عام 1945 المستجيبة للفظائع والصدمات التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية مثل Art Informel و Matter Painting و Pintura Materica. في ذات الوقت الذي كان يرفض فيه تفسير مواضيع لوحاته، كان تابيس يعارض وضعه ضمن قائمة الفنانين التجريديين، ويصر على أن هدفه هو تخليد أكثر الأشياء تدنيسا، معتبرًا أنها تملك ذات السمو الذي تملكه اللوحات المقدسة الأكثر تقليدية”.
عبرت تجاربه المبكرة عن وحشية نظام فرانكو في إسبانيا، التي كان شاهدًا عليها في مسقط رأسه برشلونة، إذ تظهر إشارات إلى المعاناة الإنسانية والألم في جميع أعمال تابيس، كما في الضمادات المتساقطة والأطراف المصابة والأشلاء البشرية والحيوانية والأسطح المشوهة، في انعكاس لمقاومته للقمع وانتهاكات حقوق الإنسان طوال حياته.
كانت واحدة من أكثر المعالجات إثارة للذكريات في أعمال تابيس، هي تحويله للقماش إلى جدار، حيث أصبحت هذه الجدران القماشية، التي مزقتها الحرب، وتحمل علامات وذكريات شوارع المدينة والفترات التي قضاها الفنان في السجون، عنصرا متكررا في عمله، وهي معالجة تتعارض مع الفهم التقليدي للوحة كنافذة شفافة على عالم آخر.
تأثر تابيس بشدة بجريمتي إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي في عام 1945، مثل العديد من الفنانين، الأمر الذي عمّق من اهتمامه بالمادة والأرض والغبار والخامات الأخرى التي تدخل في لوحاته.
أثارت أعمال أنتوني تابيس في بعض الأحيان حيرة النقاد الأمريكيين، الذين اعتادوا على الإيماءات البراقة التجريدية، والبساطة، وفن البوب، لكونه يتجنب الألوان الزاهية وبريق الثقافة التجارية أو التكنولوجية، إذ علّق تابيس في لقائه مع التعبيريين التجريديين، “كانوا يتصارعون مع اللوحات، مستخدمين الألوان العنيفة وضربات الفرشاة الضخمة، بينما جئتهم بلوحات رمادية وصامتة ورصينة ومضطهدة”.
يعتبر أنتوني تابيس أهم فنان إسباني في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أنه لم يحصد شهرة بعض مواطنيه الكاتالونيين في الولايات المتحدة، أمثال سلفادور دالي وخوان ميرو. في إسبانيا، حيث يلقي تابيس بظلاله الكبيرة على المشهد الفني المحلي، غالبا ما ينظر إليه على أنه ليس معلمًا للمبادئ والقيم الفنية بقدر ما هو أب للتمرد عليها.