أدونيس.. تخطيط التجربة الشعريَّة

ثقافة 2024/05/08
...

 ريسان الخزعلي

من بين الأسئلة التي تواجِه الأعمال الإبداعية، شعراً وسرداً ومسرحاً، هل أن كتابتها – شكلا ومضموناً- جاءت بتخطيط مسبّق أم أنها انفعال وتفاعل آنيّان أو تراكمانيان مع تجربة ما مرَّ بها المبدع؟ وقد يصح الجواب، بأن التخطيط تستلزمه حاجات الكتابة السردية: الأحداث، الحوار، مصائر الشخوص، الحبكة، الزمان، المكان، الاستطراد، الاستهلال والختام أي كيف يبدأ السرد وكيف ينتهي؟.. إلخ من الحاجيات الفنية والجمالية.
ومن المؤكد أنَّ كتابة العمل السردي تستغرق وقتاً يطول أو يقصر تبعاً لِسعة الحدث أو قِصَرِه. أما في الكتابة الشعرية فلا حاجيات كالتي تستوجبها الكتابة، بناء الشعري، الموسيقى الخارجية والداخلية، العروض، الإيقاع، الجوازات في التشكيل والتسكين، القافية، الروي، الصورة، التدوير، الرمز، شعرية النثر، الإيحاء، العلل والزحافات - تحوّلات التفاعيل.. إلخ. وكثيراً ما يوصف الشعر بأنّه سيكون "صناعة" حينما يخضع للتخطيط المُسبّق، رغم أن الشعر لا يخلو من هذا التوصيف ضمن المقاسات الفنية.
إن مناسبة هذه الإشارة، ما هي إلّا هامش من مداخلة أُولى مع ما جاء في توضيح الشاعر أدونيس حول تخطيطه المُسبّق في كتابة عمله الشعري الضخم الكتاب ذي الأجزاء الثلاثة. وقد جاء توضيحه نتيجة الأسئلة حول طبيعة هذا العمل من حيث الشكل والمضمون. وكانت الإجابة بمقال عنوانه "أنا مَن كتبته، فكيف أقرؤه؟" ضمّه في كتابه "رأس اللّغة جسمُ الصّحراء". وللتمعّن، والفائدة التي نحتاجها في تداولاتنا عن كيفيّة الكتابة الشعرية، أدرج هنا فقرات من الإجابة:
1. من هواجسي الأولى تجديد النظر باستمرار إلى تاريخنا في جوانبه جميعاً، وبخاصة السياسية والثقافية، خصوصاً أن بناء الحاضر مرتبط عضوياً، كما يُخيّل إليّ، بمستوى فهمنا للماضي، تجارب وأفكاراً. "الكتاب"، في هذا المنظور، حلْقة في مشروع، وهو في ذلك يفيض عن حدود الشعر، بالمعنى الحصريّ الموروث، والشائع. هكذا يتقاطع فيه الشعر والتاريخ، حينا، ويتواكبان، حينا آخر. وأنظر هنا إلى التاريخ بدلالته الواسعة – علماً وفلسفةً، وصراعاً سياسياً وفكريّاً. ولئن كان النص التاريخيّ نقلاً للحدث ووصفاً، فإنَّ النص الشعري اختراق واستشراف. التاريخ يعرض، والشّعر يَسْتكشِف.
2.    فبين السياسة - ميدانا ً للقمع والتسلّط، والثقافة- ميداناً للإبداع والحرية، يتحرّك "الكتاب"، ويَنْبني، إنّه أشبه بِمحْتَرَف يزخر بصُور العربيّ في مهاويه وذُرواته، وبتناقضاته جميعاً الأخلاقية والفكريّة والكتابيّة. وأعي في هذا كلّه أن القطيعة يجب أن تتأسس في سياق علائقي: بالمجتمع، بالتّاريخ، بالآخر، وبالطّبيعة، وبالذات، وبالحاضر والمستقبل. دون هذا السياق، الرّائي والمُنْخرِط معاً، المُحايث والمُتجاوز في آن، لا تصح القطيعة، أو لا تكون إلّا لفظيّة. هكذا أخلق حواراً معقّداً، وأحيانا مُلتبِساً بين الحاضر والماضي، تطلّعاً إلى مستقبل في مستوى الحرّية، وفي مستوى الكينونة. أدّت طبيعة هذا الحوار إلى أن أتجنّب البناء َ السردي الملحمي، وأن ابتكر شكلاً بنائيّا تتداخل فيه الأزمنة والأشكال. هكذا جمعت في كل صفحة من "الكتاب" بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين أساليب فنيّة متعدّدة على نَحْو متداخل ومتشابك.  وهو بناء مُستفادٌ من الفنيّة السينمائيّة، في المقام الأوّل.
3.   يُمثّل الجزء أو الهامش الأيمن من الصفحة الذاكرة العربيّة، السّلطوية السياسية – في أحداثها اللا إنسانيّة، أحداث الفتك والقتل، وفي الحركات التمرديّة الثوريّة، مفترضاً أنَّ المتنبّي، دليلي في هذا السّفر، هو الذي يسترجعها عِبْرَ مواجهاته وصراعاته وتجاربه السّياسيّة، ومطامحه. ويُمثّل الجزء الأعلى من متْن الصّفحة الحاضر - المستقبل، مُنوَّريْن بالمتنبّي، حياة وتجربة، ومُسْتلهِميْن من حياته، ومن حضوره التاريخيّ والشّعري.
ويُمثّل الجزء الأسفل لحظة التأمّل، التي تتوحّد فيها الأزمنة الثلاثة. وقد خصصت الهامش الأيسر من الصفحة لإشارات مرجعيّة لمن يريد مزيداً من الإحاطة بالأحداث، أو مزيداً من التّوثيق.
هناك، إضافة إلى ذلك، "هوامش" – صفحات كاملة، تصل فيما بين فصول الكتاب، احتفاء بالمبدعين العرب القُدامى، في مختلف الميادين، وبالطّاقات الخلّاقة في تاريخنا. والمحرّك الأوّل لهذا الاحتفاء يكمن في التّوكيد على أن ّض طاقة الخَلْق لا تُسْتنفد: بها يُعرف معنى التاريخ. والإبداع هو الذي يُضيء التّاريخ، وليس العكس. ذلك أن التّاريخ مُجرَّدُ حاضِن. ترِد ُ في "الهوامش" جميع الأسماء الكبيرة في تاريخ الإبداع العربيّ، والتي كانت مهمّشة، بشكل أو آخر. وبينها أشخاص كثيرون ماتوا قتْلاً، أو نبذا ص. إنّها، آن، إشارات إلى السمو في الإبداع العربي، وأمثلة على التفرّد، وعلى عُنْف السُلطة.
ولكل فصل نَسق بنائيّ أبجديّ يتألف من مقاطع بعدد الحروف الأبجديّة. ولكل "هامش" نَسق أيضاً، يتألف من عشرة نصوص، يحتفي كلٌّ منها باسم من تلك الأسماء الكبيرة.
4.  يجمع "الكتاب"، فنيّاً، بين أساليب مختلفة. ففيه جانب موزون بطريقة تستعيد ذاكرة الوزن الحكائيّة قصديّاً، بُغْية التطابق مع الدّلالات السياسيّة – الثقافيّة، وبخاصة في الهامش الأيمن من الصفحة، حيث تُستعاد الأحداث التّاريخيّة الدّامية، أحداث الفَتْك والقَتل. وفيه نثر بلباس ش الشّعر لمزيد من الإحاطة بالتّفاصيل. وفيه كذلك أسلوب الكتابة القائم على التفعيلة، بتراكيبها الحديثة، وعلى التّفاعيل بصيغها الكلاسيكية، وهذا قليل جدّاً. كل من هذه الأساليب يتصادى مع الآخر، دون أن يذوب فيه، أو يتماهى معه. هكذا  يمكن أن يُقرأ "الكتاب" بوصفه رواية – قصيدة، أو بوصفه شذرات وتشظيّات، أو بوصفه هيكلاً معمارياً مقسّماً إلى "غُرف"، بشكل يُتيح لكل  منها أن تكون، في آن، منفصلة ومتّصلة، عِبْر خيط هندسي جامع وجامح. وقد يشعر أولئك الذين تعذّر عليهم، لسبب أو آخر، أن يروا "الكتاب" في وحدته وشموليّته، أنّهم يمرّون بين غُرف – عوالم متباينة، وأن عليهم أن يُغيّروا بين "غرفة" وأخرى، أدواتهم في المقاربة، وفي التذوّق، وفي المعرفة. ففي كلغرفة سِرٌّ ينتقلُ خفية إلى ما يُجاورها، ويصعب الإمساك به. وفي هذا قد يُخيّل لبعضهم أنَّ مفتاح "الكتاب" ضائع.
5.   هكذا يبدو "الكتاب" في أجزائه الثّلاثة كأنّه رواية حب لتاريخنا العربي، وصراع مرير معه، في آن. ويغلب على هذه الرواية البعد التّراجيدي.
6.   يقودني الأمر إلى الاعتراف بأن "الكتاب" مُحيّر في ما يتعلّق بكيفيّة قراءته. وإذاً، لا بدَّ من أن يكون مُحيّراً في كيفية فهمه. ولا أتردد في القول إنني أُصاب، أنا مَن كَتبه، بشيء من الحيرة: كيف أدخل  إلى "الكتاب"؟ كيف أقرؤه؟ "الكتاب" شهرزاد شعريّة. تلك التي وصف أمثولتها "كارلوس فوينتس" بأنها "حكاية ماض يرويها الحاضر لإنقاذ المستقبل".
من توّضيحات  أدونيس يمكن استخلاص الآتي:
1.  إنَّ "الكتاب" صعب في قرائته وفهمه على المتلقّي شكلاً وبناءً ومضمونا.  نعم، وهو الآخر أدونيس مصاب بالحيرة: كيف أدخل إلى "الكتاب"؟ كيف  أقرؤه؟
2.   إن "الكتاب" وباعتراف أدونيس في توّضيحاته: كأنّه رواية حب، رواية يغلب عليها البُعد التراجيدي، يُقرأ بوصفه رواية – قصيدة. شهرزاد شعريّة.   فهل أن "الكتاب" رواية ضلّت طريقها إلى الشعر؟ إن الإجابة الأقرب للصواب تقول: نعم، لأن "الكتاب" قام على تخطيط مُسبّق مدروس كما في الأعمال السردية.
3. لا يخفي أدونيس الاعتراف الأوضح، بأنّه كان محققاً كما جاء في العنوان الأساس: الكتاب، أمس المكان الآن، مخطوطة تُنسب إلى المتنبّي يُحققها وينشرها  أدونيس. والتحقيق لابد أن يقوم على تخطيط مُسبّق.
4.   إن صعوبة تلقّي شعر أدونيس سواء كان في "الكتاب" أو في أعماله الأخرى، تعود إلى التخطيط المُسبّق، والتخطيط -كما أشرت- يصحُّ في السرديات، ولا يصح في الشعر، إذ أنَّ للشعر تدفقات لا يحكمها التخطيط على الأعم.
5.  يؤكد أدونيس في "الكتاب" وكذلك في توّضيحاته اللاحقة، براعته الفنيّة ضمن تحوّلاته الشاغلة.