قصيدة الومضة بين الإبداع والنقد

ثقافة 2024/05/09
...

 أ.م.د. سعيد حميد كاظم الوناس

لا بدّ من الإقرار بأن الشعر في زماننا الراهن قد تطور تطورًا كبيرًا، ولا بدّ من أن نقرّ بتغيّر المفاهيم والقيم الجمالية، فما كان جميلًا في الشعر قديمًا ومطلوبًا لم يعد كذلك في وقتنا هذا، إذ بات مطلوبًا من الشاعر في هذا العصر أن يفاجئ القارئ، ويصدمه بكلمات غير متوقعة، وهذه إحدى قيم الجمال في شعر الومضة، ولعلّ الحرج الذي يقع فيها القارئ المعاصر بأنّه يحاكم شعر الومضة على وفق معايير الشعر القديم، وهذا لا يصحُّ، إذ لا بدّ من تذوّق شعر الومضة على وفق معطيات شعرية معاصرة وقيم ومفاهيم جمالية تختلف عن قيم الشعر القديم ومفاهيمه ومعاييره، ومن أمثلة القيم المختلفة قيمة "التشبيه"، فقد كانت قيمته تقدّر بمقدار المقاربة أي كلما كان المشبه به قريبًا من المشبه كان التشبيه أجود.
وأنّ التشبيه يقوم على خطاب العين، ويُعنى بالشكل واللون، ولكن التشبيه في شعر الومضة يقوم على خطاب الانفعال، والعاطفة، ويعتمد على الحس الجماليّ، ولا يهمه الشكل أو اللون أو المقاربة، بل إنّ شعر الومضة يقوم على البعد بين المشبه والمشبه به، ولا يبحث عن المقاربة ولا المطابقة، ولا يدخل فيه الوعي أو الفهم ويقوم على الانفعال والخيال وهنا تبرز المباعدة، كما يبرز الغموض؛ لأنّ الخطاب ليس موجّهًا للعقل، إنّما هو موجّه للحس والوجدان وفيهما من الغموض ما فيهما، وهو غموض السحر والجمال الذي لا يدرك بالعقل، إنّما يحسّ به المرء وينفعل ولا يجد له تفسيرًا ولا تعليلًا، ولا يخضعه للفهم ولا يطالبه بالمقاربة أو الوضوح.
القارئ لشعر الومضة لا يمكن أن يبحث عن مشابهات أو مطابقات أو قرب أو بعد، إنّما يحسّ وينفعل ويدرك الجمال في هذا الصوت وفي الكون كلّه؛ لأنّ هذا الصوت هو جزء من الكون كلّه، فالرؤية هنا كلية شاملة، وليست جزئيةً محدودةً، وكذلك يجب أن تكون رؤية القارئ.
كذلك فإنّ الإجراء البلاغي بمفهومه التقليدي، لا يمكن  وحده أن يساعد على تذوق تلك الصورة والإحساس بها، بل لا بدّ من معايير ومفاهيم جديدة، بعيدة عن التقسيمات العقلية والمنطقية للبلاغة، ولا سيما في مراحل درسها المتأخرة التي خرجت بها من النقد والإبداع إلى النحو والمنطق، وأرهقتها بالتقسيم والتفريع والتعريف، وتكرار الشواهد المعروفة، وحوّلتها إلى إجراءٍ عقلي، وابتعدت بها عن ينابيعها الصافية عند عبد القاهر الجرجاني وأمثاله. وهنا سوف تثور فورًا غيرة القارئ على الشعر القديم، وسوف يظن أنّ في هذا دعوة إلى التخلي عن الشعر القديم، أو يظن أنّ في هذا تفضيلًا لشعر الحديث على الشعر القديم، والأمر ليس كذلك على الإطلاق، فلا أحد يستطيع أن يلغي الشعر القديم، والأمر لا يتعلق بإلغاء ولا مفاضلة إنّما يتعلق بأشكال من التعامل مع القديم والحديث، فلا بدّ من التعامل مع القديم على وفق قيمه ومفاهيمه وتقديره بالقياس عليها، ولا بدَّ من التعامل مع الحديث على وفق قيمه ومفاهيمه الجديدة وبالانطلاق منها، ويبقى الجيد جيدًا والضعيف ضعيفًا، في القديم أو في الجديد، وفي القديم شعر ضعيف كثير، وفي الحديث شعر ضعيف أكثر، ولا بدّ في الحالتين من إعطاء كلّ ذي حق حقه بالانطلاق من داخله، ومن الإقرار بالتطور.
بل ثمة حقيقة تدعونا وهي لا بدّ من النظر بواقعيةٍ إلى الشعر في سيرورته عبر الزمن وصيرورته، فالشعرُ حركة في الزمان والمكان وهو في تغيّرٍ مستمر، وليس الشعر كتلةً واحدةً، وليس نمطًا واحدًا ولا نوعًا واحدًا، هو جنس أدبي، ولكنّه يضم أنواعًا مختلفةً، ففيه النقائض والأراجيز والشعر التعليميّ والموشحات والبديعيات والرباعيات والمخمسات، وفيه شعر الحكمة والمديح والغزل والهجاء والفخر والرثاء، وكلّ غرض أو نوع مختلف عن غيره والشعر مختلف المفاهيم والأنماط والقيم في كلّ عصر أو بيئة، ولا بدَّ من ملاحظة الفرق بين كل عصر ومرحلة وبيئة ونوع وشاعر، بل لابدّ من ملاحظة الفرق في شعر الشاعر نفسه بين مرحلةٍ من عمره وأخرى، وأولى مهمات النقد ملاحظة الفرق.
لقد كان الشعر على مرّ التاريخ في حالة تطورٍ مستمر، وهو يتطورُ بتطور المجتمع، ومن الغريب أن يقرَّ بعض القراء والدارسين للشعر القديم تطوره في حين ينكرون على أشكال الشعر الحديث تطوره وهم يزعمون أنّ الشعر القديم قام على قواعدٍ وأصول، في حين لم يمتلك الشعر في عصرنا الحديث مثل هذه القواعد والأصول، وهم في الحقيقة واهمون فالشعر القديم في عصوره كافة لم يقم على قواعدٍ وأصول، إنّما تطور الشعر  ونهض واختلف من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ وبعد انتهاء كلّ مرحلة كان النقاد يستخلصون القواعد والأصول من المرحلة السابقة، ويأتي الشعراء المجدّدون فيرفضون تلك القواعد والأصول، ويصنعون شعرًا جديدًا، ويستخلص النقاد القواعد والأصول، ثُمّ يأتي - مرةً أخرى- شعراء مجدّدون ويرفضون ما وضع من قواعدٍ وأصول، وهكذا دواليك، أما الشعراء الذين تقيّدوا بالقواعد والأصول فقد كانوا مقلّدين ونسيهم الزمن، وإذا كان ما يزال يُذكر بعضهم فلأسباب أخرى لا تتعلق بالشعر.    
وهكذا صرنا أمام فتوحات شعريّة جاء بها المبدعون حتى جاء شعر الومضة في زماننا الحالي وفقًا لتطور المجتمع، فقد تطوّر المجتمع، وانتقل من البساطة إلى التعقيد، وتراكمت مشكلات العصر وتزاحمت وصعب التعبير عنها؛ لكثرتها وتعقيدها وتزاحمها وتداخل بعضها في بعضها الآخر، ومن هنا أصبحت تجربة شاعر الومضة معقّدةً ومركّبةً، وأصبحت رؤيته رؤية انفعالية وجدانية حلمية فيها قدر من الوضوح وأقدار من الغموض فأصبح من الصعب أن يعبّر كما كان الشاعر القديم يعبّر، فمالَ إلى الغموض والرمز والتلميح، بل أراد أن يضع المتلقي في خضم التجربة، ليعيش المعاناة مثله، فالشاعر الذي يكتب قصائد الومضة لا يريد ، ولا يعطي رأيه في القضية، ولا يلخّص موقفه من المشكلة، ولا يريد أن يصوغ خبرته في مقولةٍ أو حكمةٍ أو خلاصةٍ، إنّما يريد للقارئ أن يعيش التجربة بوساطة الشعر؛ ولذلك لا يقوم شعر الومضة على الفكرة أو المعنى، ولا يقوم على الخطاب المباشر، ولا يقوم على تحديد الغرض أو الموضوع، إنّما  يقوم على التجربة لا يلخصها، ولا يختصر رؤيتها، إنّما ينقل التجربة ويصوّرها، ويضع القارئ في بحرانها، فيلقيه في خضمّها، ليعاني ويحسُّ وينفعلُ ويشعرُ، يُعيد عيش التجربة كما عاشها الشاعر؛ لذلك كان على القارئ المعاصر أن يتعب لا أن يطرب بلا إمعان وكان على القارئ المعاصر أن يعاني وأن يعيش وأن ينفعل، لا أن ينتظر الخلاصة أو النتيجة أو الحكمة وكثير من القرّاء لم يعتادوا هذا، وهنا تكون المفارقة بين المتلقي والمبدع، وهذا كلّه في الغالب الأعم، إذ قد تجد في الشعر القديم من يلخّص التجربة، ومن يصوّرها وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعر في وقتنا الحالي.
 ومن الضروري القول: إنّ من إحدى مغامرات الحداثة التي اقتضتها روح العصر هي "قصيدة الومضة"، وهي نوعٌ شعريٌّ جديد، يقوم على خلق فضاء شعريّ له خصوصيته وتجربته، ولا بدَّ من التعامل معه من داخله، من غير الحكم عليه سلفًا، مثله مثل أيّ نوع شعريّ آخر، فليس كلّ ما كتب على التفعيلة جيدًا، بل فيه رديء كثير، وليس كلّ ما كتب على البحور العربية جيدًا أيضًا، ففيه رديء، والجيد هو الجيد في أي شكلٍ كان والشكل لا يمنح الشعر قيمته.
لهذا لا بدَّ من التعامل مع مصطلح "قصيدة الومضة" على أنّه بنيةٌ جديدةٌ، لا يمكن تذوقه أو تقويمه أو الحكم عليه من مفاهيم شعر التفعيلة أو شعر البحور العربيّة، بل لا بدَّ من تذوقه من داخله، فهو أشبه ما يكون بقارةٍ أو بلدة جديدة، لهذا فهو يختلف عن كلّ ما عداه وممّا لاشك فيه أنّ التعامل معه صعب؛ لأنّ القارئ اعتاد على الدخول إلى عالم القصيدة مزوّدًا بخبرات سابقة، وربما بقواعد وأحكام وقوانين سابقة لا تصلح للشعر أيًا كان فكيف يمكن أن تصلح لقصيدة الومضة؟
المهم في قصيدة الومضة ليس النقاش النظريّ والمماحكات الخلافية حول شرعية هذا النوع وتاريخه ومفاهيمه أو قوانينه مع الإقرار سلفًا، بأنّه لا قواعد ولا قوانين في الإبداع، ولا جدوى من المماحكات والخلافات النظريّة؛ إذ إنّ القيمة هي للنصوص، والتعامل معها هو الذي يظهر حقيقة هذا النوع الشعريّ الجديد الذي تبوّأ مكانته في الساحة الأدبيّة على الرغم من رفض الرافضين له وخوفهم الوهمي من أن يُلغي قصيدة البحور العربيّة، أو التفعيلة، وأكثرهم كان يرفضها قبل حين من الزمن، أو دعواهم أنّه معاداة للتراث.
إن أخذ قصيدة الومضة مكانتها في الساحة الأدبية لا يعني إلغاء لأيّ نوع شعري آخر، سواء في البحور العربية أم التفعيلة، ولا يعني في شيء المعاداة للتراث إنّما قصيدة الومضة هي نوع جديد له الحق في العيش مثلما للأنواع الأخرى حق العيش، ولها جميعًا أن تستمر وأن تعطي وأن تتبوّأ المكانة التي تستحق في الساحة الأدبية على وفق الجودة والتجديد والإضافة.
إنّ من يريد أن يدرس قصائد الومضة نقديًا فيجب أن يكون نقده حرًا ومبدعًا، ويعيد إنتاجها، بل إنّ نقد القصيدة هو الذي يمنحها وجودها، والقصيدة تظلُّ حبرًا على ورق، وورقًا في ديوان وديوانًا على رف إلى أن يقيّض لها قارئ ناقد يوقد فيها النار، فتتشتعل عندئذ، لتضيء وينتشر شعاعها ويضوع منها الشذى والعبق ولا يمكن وضع خطة لنقد القصيدة، ولا يمكن وضع قاعدة إنّما كلّ قصيدة تقرأ من داخلها، وكلّ قراءة للقصيدة هي  قصيدة جديدة، ولا بدّ للقراءة النقدية أن تكون ولادة جديدة.
وفي خضم هذه التعليلات والإيضاحات لنا أن نذكر أنّ ثمة ولادةً جديدةً ستغمر متذوقي الأدب وصنّعه ومبدعيه بجمال هذا الفتح، وعلائمه الدالة على الإضاءة المستديمة، تلك الولادة ستتوج بوليدٍ جاد به الشاعر الدكتور مشتاق عباس معن تنظيرًا وإجراءً، ليُقبلَ المتلقي عليه بكامل شغفه، فيستحسن تذوقه ويميل إلى متبنياته، شاكرًا فعل اجتراحه تنظيرًا، ومبديًا امتنانه لمعروف شواهده تطبيقًا من سادنهما معن وماسك أصبع إبهامه ليبصم في
لوحة الأدب اسمه وينقش في تضاريسه فعله الإبداعيّ.