الأوديسة.. زمن الوحوش والأشرار

ثقافة 2024/05/09
...

 جان بيكيرو
 ترجمة: رضا الأبيض

إذا كان عوليس، البطل المتجول في الأوديسة، شخصية أسطورية، فإن ملحمة هوميروس الشهيرة تكشف عن عناصر تاريخيّة حقيقيّة للعصر البرونزي. من {أنانسي}، عنكبوت فولكلور غرب إفريقيا، إلى لوكي، إله الأساطير الإسكندنافية القادر على التحول، تعد الشخصيات المؤذية من بين أبطالِ الأساطير العالميّة الأكثر تسلية. إن هؤلاء الناس العباقرة الذين ليسوا الأقوى ولا الأسرع ولا الأجمل. إنهم ينتصرون بفضل ذكائهم وليس قوتهم.

وأحد أقدم أولئك الأبطالِ وأشهرهُم هو "عوليس" الذي سيساعده ذكاؤُه على تخطّي عديد المآزق في الأوديسة، الملحمةِ التي أُلّفت حوالي القرن الثامن قبل الميلاد وتُنسب إلى الشّاعر اليوناني هوميروس.
يظهر عوليس لأوّل مرة في عملٍ آخر منسوبٍ إلى هوميروس هو الإلياذة التي تحكي قصّة عراكٍ بين أخيل وأجاممنون خلال حرب السّنوات العشر بين الإغريق وطروادة. وكان عوليس ملك إيثاكا يحاربُ إلى جانب الإغريق.
تروي الأوديسة الرّحلة التي ستشهد عودتَه إلى مملكته وإلى زوجتِه بينيلوب وابنه تيليماك. من المفترض أنْ تستمر تلكَ الرحلةُ عشرة أيام، ولكنها بدلا من ذلك امتدتْ لعِقْدٍ من الزمن بسبب غضب بوسيدون، إله البحر، على عوليس.
لقد أعاق الإلهُ الغاضبُ مرارا تقدّم عوليس. لكنَّ هذا المراوغَ الذكيَّ كان في كلّ مرة يتمكّن من البقاء على قيد الحياة.
وعلى الرغم من كتابتها بعد قرونٍ فإنَّ أحداث الأوديسة تدور في اليونان الميسينيّة  في العصر البرونزي بين عامي 1600 و 1200 قبل الميلاد. ووفقا لبعض المؤرّخين تتضمّن الأوديسة تقاليدَ شفهية أقدمَ من هذه الفترة، لكنّها تعكس المعايير الثقافية زمن هوميروس.
إنّ رحلات عوليس ما تزال تقدّم لنا لمحة عن الحياةِ خلال الفترة الميسينية والفترة التي بعدها مباشرة. وبالتالي فإنها تمثّل لقطةً تاريخيّةً مهمّةً بالإضافة إلى كونها قصّةً مثيرةً عن الفارّين. تبدأ الأوديسة بعد سنواتٍ من سقوط طروادة. في جزيرة إيثاكا، تنتظر بينيلوب وتيليماك عودةَ عوليس. لقد حوصرت بينيلوب الصبورةُ من قبَل الخاطبين الذين يعتقدون أنَّ عوليس مات ويأملون في الزواج منها، وبالتالي في السيطرة على المملكة. فَتَعِدُهُمْ بأنها ستختار زوجا جديدا بمجرد أنْ تنتهيَ من نسْج سجادة جنائزية لليرتس، والد عوليس.
تكسب بينيلوب، زوجةُ عوليس، الوقتَ على حساب خاطبيها من خلال التظاهر بنسْج السّجادة التي تضعها على النّول، لوالد زوجها. ولربح الوقت كانت تحلّ في الليل خفيةً ما تنسجُه في النهار، وفي نفسها أملٌ في رؤية عوليس يعود من جديد.
أما تيليماك فكان، بتشجيعٍ من الإلهة أثينا يبحث عن والده، الأمر الذي
أثار استياء المتقدّمين إلى خطبة أمّه.
في هذه الأثناء، يُحتجز عوليس لمدّة سبع سنوات في جزيرة حوريّة. عشقته كاليبسُو الخالدةُ عشقا جنونيا، ولم تسمح له بالرحيل، لكن عوليس كان يحترق برغبة واحدةٍ فقط ألا وهي العودةُ إلى البيت.  
تتدخل الآلهة وسيطًا وتأمر الحورية بإطلاق سراحه. فيبحِر على متن عوّامةٍ ويصل إلى جزيرة الفيشايين حيث يَكْشِفُ عن هويته الحقيقية ويحكي قصّة رحلتِه التي استمرت عشر سنواتٍ منذ نهاية حرب طروادة. يأسر سكّانُ الجزيرة عوليس الذي تبدأ مغامراتُه عندما يُحَاصَرُ رجالُه من قبل العملاقِ بوليفان. وبمهارة كبيرة، ينجح في  إسْكَارِ الوحشِ وفقئ عينِه عندما يُغمى عليه. يسخر عوليس من بوليفان ويكشف له عن اسمه الحقيقي. ثم أخيرا يتضرّع العملاقُ إلى والده، الإله بوسيدون، كي يُحِلَّ بالملِك اللّعنةَ ويجبره على أنْ يتيه مدّة عشر سنوات. ببراعة ذاتية، أسكر عوليس العملاقَ بوليفان، ابن بوسيدون، إله البحر، وأعماه.يتخطى عوليس عديد المخاطر، خاصة الليستريغيين، أكلةِ لحوم البشر، وكذلك السّاحرة سيرسي، التي تمسخ رجاله خنازير. يزور العالمَ السّفلي، ويقاوم أغاني الصفّارات، القاتلةَ، ويبحر في المياه الغادرة بين الوحشيْن البحرييْن، شاربيد وشيلا.
وفي الطريق، تتحطّم عوامتُه ويغرق رجالُه. ثم يعيد الفسيونون، وقد تأثروا بالقصة، عوليسَ إلى إيثاكا: لاحت البلاد. يا لها من فرحة شعُر بها بطلُ الصبر! كان يعرف السعادة، هذا عوليس الإلهي. أرضه! قبّل ترابها المغذّي، ثم يداه إلى السّماء، ابتهلَ إلى الحوريات.
تساعد الإلهة أثينا عوليس على أنْ يتنكّر في هيئة متسوّلٍ عجوز حتى يتمكّن من الدخول إلى القصر من دون أن يتفطن إليه أحدٌ. لقد خدعت الحيلةُ الجميع تقريبا باستثناء كلب عوليس المخلص، أرغو، الذي كان ينتظر عودةَ سيّده، لكنه مات وهو يتعرّف عليه.. لكن أرغو مات: غطت ظلالُ الموتِ عينيْه التي رأت عوليس مرّة أخرى بعد عشرين عامًا.
يكشف الملكُ عن نفسِه لأبنه ويضع الاثنان خطةً للانتقام. يقرر عوليس استخدامَ خدعة جديدةٍ، ويطلب من بينيلوب أنْ تقدّم يدها إلى الرجل الذي سيكون قادرًا على تضميد القوس الذي على ملِكه وإطلاق سهْم بين اثني عشر فأسًا.
بعد الفوز في الاختبار، ينزعُ عوليس القناعَ ويمطر السّهامَ على الخاطبِين فيقتلُهم جميعا. أخيرا يلتمّ شملُ بينيلوب مع زوجها ويعود السّلام إلى إيثاكا.
لم يجد المؤرّخون أيَّ دليل ملموسٍ على وجود مَلِكٍ يوناني يُدعى عوليس "أو أوديسيوس باليونانية".  ولكن، إذا لم يكن ذلك الإنسانُ موجودا، فإنَّ العلماء يعتقدون أنّ مملكة إيثاكا الميسينية كانت موجودة فعلا. إنّ موقعَها الدقيقَ غير معروف، لكنّ الكثيرين يعتقدون أنَّ إيثاكا عوليس كانت في سيفالونيا، في شبه جزيرة باليكي، وهي جزيرةٌ أيونية صغيرةٌ في العصر البرونزي.
إنّ اختيار الكلماتِ التي استخدمها مؤلفُ الأوديسة يمنحنا نظرة ثاقبةً على الحضارة الميسينيّة وكيف أثّرتْ على الثقافاتِ التي ظهرت لاحقا.
كلمتان مختلفتان تستخدمان على سبيل المثال للدلالة على المَلِكِ: يوصف عوليس مرّة بأنه anax وأخرىbasileus  إيثاكا. إنّ كلمة " anax  " مميّزة للعصر الميسيني،  بينما تعود كلمة " basileus  " إلى فترة لاحقة. ثمّ إن المصدر الأساسيَّ لثروة الملوك الميسينيين هي تربيةُ الخنازير والماعز والأغنام والأبقار على نطاق واسع. وتذكر النصوصُ الميسينية والأوديسة ماشية الملِك الكبيرة.
وفي الأوديسة يتمّ تسليطُ الضوءِ على الدور المركزيِّ لتربية الحيوانات من خلال ثلاث شخصيات هي: "قطيع خنازير" و"قطيع ماعز" و  "راعي بقر".   وعندما يجد عوليس والدَه ليرتس في نهاية رحلته، كان الرجلُ العجوز يعتني بكرومه، الأمر الذي يشير إلى أنه يمتلكُ "أرض تخصّص لإله أو ملك" مماثلةً لتلك التي تُذكر مرتبطة بالمَلِكِ في النصوص المكتشفة في بيلوس.  ثمّ إنَّ وجود الخدم، وكثيرٌ منهم كانوا عبيدا، هو سمةٌ أخرى من سماتِ الأوديسة والتي تؤكدها المصادرُ التاريخية الميسينية.
تلعب المرضعة إريكلي التي اعتنت بعوليس، عندما كان طفلا، دورا رئيسيًّا. وعندما يصل الأخير متنكرا إلى القصر تغسل قدميْه وفقا للتقاليد اليونانية. وتلاحظ وجود ندبة مميّزة تكشف الهوية الحقيقية لضيفها، لكنها تُخفي السّر عن مَلِكِها.  وقد تمّ، في القصّة، ذكْر عبيدٍ خدم آخرين. تلك هي حالة النساء اللواتي يحكم عليهن تيليماك بالإعدام بسبب ممارستهن الجنس مع خاطبي  بينيلوب.
توجد اختلافات كبيرة بين منزل الملك، مقر إقامته، كما هو موضّح في الأوديسة، وما نعرفُه عن كيفية إدارة القصور الميسينية. ويبدو أنهم كانوا يوظَّفون، على سبيل المثال، كخلايا منتجة مع الحرفيين والعبيد الذين صنعوا الفخار والأواني الزجاجية والحديد من المواد الخام التي يتمّ إحضارُها إلى القصر. ومقابل عملهم، كانوا يحصلون على حصص من الأرضِ والغذاء. ومع ذلك، لا يظهر هؤلاء العمالُ في الأوديسة.
ومثلما يصف هوميروس، تمَّ تنظيمُ الميسينيين في ممالكَ. لقد كان عوليس ابن ليرتس,  وكان ورث المملكةَ عند بلوغه سن الرشد. وتؤكد النصوصُ الميسينية الأخرى وصفَ قصر إيثاكا. لقد حكم الملوكُ من قصورهم. ولم تكن هذه المجمّعاتُ المثيرةُ للإعجاب بمثابة سكن للعائلة المالكة والضيوف والخدم فحسبُ، بل كانت أيضًا بمثابة مركز إداريٍّ حيث يتمّ دفعُ وتمرير العائدات المتأتية من أرض الملِك ومن الماشية.
إنّ التاريخ لا يذكر فعلاً كيف حكمت الممالكُ الميسينية، ولا ما هي العلاقة التي كانت تربط بعضَها ببعض. ولكن، وبصرف النظر عن ملاحم هوميروس، تذكر أساطيرٌ أخرى عن حرب طروادة اتحادًا من الممالك التي تحالفتْ ضد عدوّ مشترك. عادة ما يعود أصلُ هذا التحالف إلى عوليس وإلى خاطبي أجملِ امرأة في العالم. لقد قدّم الملوكُ الميسينيون الأقوياءُ أنفسَهم بالفعل على أنهم خاطبو هيلين، لكنَّ والدها، الملك تيندير، كان يخشى أنْ ينقلبوا على سبارتا إذا لم يَقبل بهم. يقدم عوليس العبقريُّ، بعد أن حول انتباهه إلى بينيلوب، ابنة عم هيلين، حلاًّ لتيندار بشرط أنْ يترك يد بينيلوب له "وهو ما فعله". ويعلن للملكِ الإسبرطي أنه قَبْلَ أنْ يَعِدَ بيد هيلين، يجب عليه أن يجعلَ جميعَ خاطبيها يُقْسِمُونَ على مساعدة هيلين وزوجها المستقبلي إذا وقع اختطافُها يوما مَا.. يقبل الجميع، وبالتالي يشكّلون التحالفَ الذي سيقاتلُ طروادة عندما ينقذ باريس، أحد أمرائها، هيلين من زوجها مينلاوس.  
وتشير مصادر تاريخية أخرى من نفْس الفترة إلى وجود اتحادٍ كونفدرالي ميسيني تجمّعَ تحت اسْم مملكةِ أهياوا في النصوص الحيثيّة التي كُتِبت حوالي 1400 - 1220 قبل الميلاد، وتاناج  في المصادر المصرية من القرن 15 قبل الميلاد.
لقد عاشت الأوديسة قرونا لأنها قصّةٌ سريعة الإيقاع مليئةٌ بالمشاعر الإنسانية الصالحة لكل الأوقات، مثل الرغبة في العودة إلى البيت ولمِّ الشّمل مع الأحباء، ولأنها تعجّ بالوحوش والأشرار العجائبيين.  
لقد ساهم عمرها الطويلُ في نقل تاريخ جيّدٍ، ولكنها كانت أيضًا نافذة على اليونان الميسينيّة وملوكها في الزّمن القديم.