طالب عبد العزيز
وأنا صبي، لم ابلغ السادسة عشرة بعد، كتبت قصيدة قصيرة، مختلة الوزن، وربما بلا وزن، لا أتذكرها الآن، لكنْها كانت بهذا المعنى:" في الليلة الموحشة هذه، وكرجل لم يحسن اختياره بشيء، لا اطلب لليلتي هذه أكثر من أمراة جميلة، محلولة الشعر، تقف على بابي، وتسمعني شعراً، لم أقرأه كشاهد في كتاب النحو". .يبدو أن طلبي المبكر لم يأخذ طريقه الى السماء، إذ لم يك موزوناً، مقفىً، كما تريد الالهة، ويطيب لشياطين الكلام سماعه.
لذا مددت يدي الى الشاعر والمعلم، عبد العزيز عسير، لأطلعه على ماكتبت، حيث سبق أنْ هداني لقراءة "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" لأحمد الهاشمي، والذي كان عصياً عليَّ، ثم أنني كنت طالبا كسولا، بطيء الفهم، استعجل الشعر، كما يستعجل المُغتلِمُ فتاه، أريد الشعر، وليس غيره، وأرى بانني حتى أتعلم الكتابة بالوزن سيفوتني الكثير منه، وهذه مشغلة عن الشعر، الذي يسكنني، وأيّ معنى ليوم يمضي لا أكتبُ قصيدة فيه. كان الشعر عندي سمكةً تلبطُ بين يدي، غزالا شاردا، في برية لا تحدُّ، لذا فمن العبث ان أتركه.
بين عامي 1970 - 1971 كنت أصغر الجالسين على كراسي مديرية رعاية الشباب، التي قدمني الى منصتها الشاعر نزار الناصح، وقرأت قصيدة صغيرة، كنت ابن ستة عشر عاماً، كان الشاعر عسيراً قد أصلح لغتها، وقوّم وزنها.
في نهاية العام 1971 أهداني أحدهم كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" ومن مصروفي اليومي اشتريتُ ديوان "شموع المعبد" لفؤاد الخشن، أحفظُ الى الآنَ "فأتلقْ يا معبد النجوى بنا/ إنّما نحن شموع المعبد" ثم اشتريت ديوان "الحبُّ أحلى" لعبد الكريم شمس الدين، من بائع يصيح في سوق بالعشار "إثْقَفْ بدرهم" وديوان أزهار ذابلة لبدر شاكر السياب، وكذلك ديوان مظفر النواب "للريل وحمد" في السنة تلك أحببتُ أولَ امرأة، كان اسمها خولة، ولأجلها كنت أرددُ مطلع معلقة طرفة بن العبد "لخولةَ أطلالٌ ببرقةَ".
في نهاية العام 1969 كان الشعراء البصريون ينشرون قصائدهم في جريدة "الثغر" التي يحرر الشاعر عبد الرزاق حسين صفحتها الثقافية، ولمّا كانت أسماؤهم تعتلي قصائدهم كان الحسدُ ينخر قلبي، وتاكلني الغيرة، فقد كان نشر قصيدة لي ضربا من عظمة لا يبلغها احد، ولأنَّ كتابة الشعر بالوزن كان اشتراطاً للنشر فقد طلبتُ من الشاعر عسير ان يقوّم وزنَ قصيدتي، وحين تمَّ ذلك لي بعثتُ بها الى مجلة، كانت تصدر في بغداد، وهكذا رأيتُ اسمي وهو يصطف مع اسماء شعراء العاصمة.
ياه، ما أكبرني صبيّاً، ما أجملني شاعراً!
لكنْ، وفي غمرة فرحي هذا، كنت اشعرُ بأنَّ قصيدتي المنشورة لم تكُ خاصتي، فقد تغيرت الحروف، وسُوّيت الكلمات، كان المعلمُ، الشاعرُ عسير قد عمل مبضعه في جسد حروفي وكلماتي، أضاف، واستبدل، وحذف، وغيَّر كلماتٍ ومعانٍ كثيرة، ولم تعدْ لي تلك القصيدة، التي أردتها ان تعبّر عمّا في نفسي، فقد عبَّرَ بعضُها عمّا في نفسه، وضاعت مشيئتي في بحر مشيئته الكبيرة، ولمَا كان الزمن يمرُّ بزهره وعوسجه على الروح الشاعر، ويسحق بكعبيه الجسد الضئيل آنذاك فقد آلمني انْ تدوس قدمُ غيري عشبَة روحي، ولا أريدُ أنْ أسقي أشجاري بماءِ أحدٍ سواي، وهكذا، نسيت القصيدة تلك، ونسيت قصائد كثيرةًغيرها.
لكن، لا ضير من الخجل والألم والتجاهل وأخطاء اللغة والوزن، بما فيها عثرات اللسان، وسقطات القلم، فقد تعلمتُ الدرس الأول, وجنيتُ ثمر الصفعات، إذ كلُّ عثرة لسان في حضرة شاعر كبير صفعة على الوجه، لذلك لم تعد الرغبة بالنشر غايةً أسعى لها، ولا إغراء في الأمر, بل هو الحذر الذي لا بدَّ منه، وهكذا صارت منصة الشعر واطئةً، وبلا معنى، ثم ضؤلت بعين الشاعر المحافل والمهرجانات، وصغُر المجد والاغراء، إذ، ليس الأمرُ كيف تكتب؟
بل ماذا تكتب.
فتوقفت طويلاً وتركت الكتابة والنشر عشر سنين، منصرفاً الى القراءة والصمت والتجريب، حتى حلَّ العام 1979 حيث نشرتُ في مجلة الدكتور صلاح
خالص "الثقافة" قصيدةً أظنها من المتدارك.
لا أظنَّ شاعراً عراقياً من "جيل" الستينات والسبعينات والأجيال اللاحقة لم يقتن نسخة من كتاب سمير الحاج شاهين عن رامبو، أو كتاب "رامبو .. آثاره وشعره" بترجمه خليل خوري، وصدر ببغداد في العام 1973.
لقد فعل رامبو شاعراً وملعوناً ما لم يفعله أيُّ كتاب في الشعر، عبث هذا المخلوق بسلوك وحياة وشعر عشرات الشعراء العراقيين آنذاك، مثلما عبث بشعر وحياة المئات من الشعراء في العالم، ويشرفني أنني كنت واحداً من هؤلاء، الذين سارعوا لاقتناء نسخته منه، وأشهد أنني، وقعت أسير طفولته، ونزقه، وصلفه، وشذوذه قبل أنْ أقع أسير شعره، هذا المجنون المشرد الشاعر، الذي هزَّ العالمَ من أذنيه، بتعبير هنري ميلر.
لا أحتفظُ في مكتبتي اليوم بأيِّ كتاب للعروض، إذْ كلُّ ما كان فيها لم يعدْ، فقد أهديتُ بعضها للشعراء المبتدئين، وتخلصتُ من البعض الآخر في دُرجٍ عميقة، مظلمة.
لستُ نادماً، ولا اشعر بخيبة كبيرة، كما يظنُّ البعض، أبدا فمعرفة العروض وإتقان الصنعة، والإحاطة بالبحور وتفريعاتها علمٌ وتسليةٌ جميلةٌ، ومشغلةٌ أجمل، أذهبُ لها، والهو بها الى اليوم، ومن مقامي المتواضع هذا أكبرُ شأن شعراء الوزن الذين يخفون بحور الخليل، في جميل شعرهم، ولا نشعر معهم بأهمية وجدوى العروض، فيطغى الشعر خالصاً عظيماً، وأشهدُ الله أنَّ سعدي يوسف كان واحدهم.