وارد بدر السالم
(1) بين الواقعية والرمزية والسريالية، تستقر حتى الآن تجربة الفنان المبدع مؤيد محسن مع هذه الثلاثية التي عادةً ما تقرر أسلوبه ومنهجيته في رؤية الحياة من حوله فنياً في الأقل.
وفي عموم التجربة الفنية له، نجد رؤية اختزالية لواقع معبّأ بالمنعطفات التاريخية المعروفة، بما فيها من سلوكيات اجتماعية وسياسية، لاسيما الواقع الريفي والرموز التاريخية المحيطة به، في بيئة تنطوي على أسرار فولكلورية وشعبية بعضها قديم، والآخر معاصر.
لذلك نقرأ خطاب الأفكار الفنية، من تلك التي تستدعي الرموز لتتكامل من حيث المبدأ مع واقعيتها وغرائزها البيئية في مقاومة الزمن المتسارع، مثلما تستدعي القفز على الواقع في كثيرٍ من الأحيان، لتضمينه بلباس أكثر هرباً من الواقع ذاته.
تمهيداً لبنية فنية تتأطر بها أعمال الفنان الذي يحاول في مجمل معارضه أن يكون بعيداً عن المألوف في الرسم، وهذا من استحقاقاته الشخصية.
(2) في لقاء صحفي سابق رفض الفنان مفهوم السريالية في أعماله بقوله: (أسلوبي يسمى الواقعية الرمزية وليس له علاقة بالسريالية) هذا النفي القاطع يوحي بمدرسية جاهزة أولاً، وخطابٍ بَصري آخر غير معتاد ثانياً.
كما لو أنه يتوخى إحالة أعماله الفنية إلى واقع موصوف وبيئة معروفة بإطارها الواقعي والتشريحي والرمزي، فقد تكون السوريالية ذات ملمح هجين على واقع يتنوع الفنان في طرحه لأنه يستجيب له عبر لوحاته، لكن يبدو أن هناك التباساً في فهم المصطلح وذيوعه منذ عشرينيات القرن الماضي، فالسوريالية تعني "فوق الواقع" كحركة أدبية قادها الشاعر والروائي الفرنسي أندريه بريتون، فيما تعكس البيانات السريالية رحلة الأفكار ومنهجيات الرؤيا الباطنية للعالم للأجيال الفنية التي صارعت وجودها المحفوف بالمخاطر مع الموجودات السياسية في كل عصر، على أساس أن السريالية هي "مشروع ثوري" يقيم الحجج على اضطرابات الواقع وتهافته بسبب السلطات السياسية.
لنجد في الأدبيات السريالية وفنياتها التشكيلية؛ عودة إلى الواقع والرمز معاً، للوصول إلى حالة الخلق الإبداعي لما فوق الواقع وما وراءه من تضمينات.
بدءاً من بريتون أدبياً حتى سلفادور دالي تشكيلياً. وهذه العودة ليست مجازية، إنما حقيقية لتشريح الواقع إلى رمزيات يبدو ظاهرها مشتتاً، غير أن باطنها مكتظ بالرمز والرفض والتحليق الفني الذي يتجاوز الواقع بمراحل كثيرة. بما يشي أن الواقع يتحول إلى دهشة فنية، وربما سخرية لكن بطاقةٍ خلاقة من شأنها ترويضه (الواقع) وتطويقه عبر رموز سريالية، منتزعة من البيئة ذات الملامح الصحراوية مرة، والمائية مرة أخرى في تجربة الفنان مؤيد.
(3) إصرار الفنان مؤيد محسن على أنه واقعي- رمزي ومحاولة ابتعاده عن (تهمة) السريالية، موضوع ملتبس فعلاً, فالمتطلع إلى معظم لوحاته في معارضه الشخصية، سيجد الملمس السريالي واضحاً، فما فوق- بعد الواقعية سمة غالبة في مجمل تحرّياته الفنية الجمالية.
حتى لو استعار التاريخ العراقي القديم رمزياً كجوهر ذاتي للشخصية العراقية وخلفية عامة للبلاد التي استحالت إلى خراب سياسي واجتماعي ومصيري، لهذا يرسم الفنان مؤيد الواقع بالطريقة السريالية، وفي ذاته الفنية الباطنية واقع ليس مجرداً عن تفاصيله اليومية، لكنه واقع مختزَل إلى حد الترميز المكشوف؛ بتغريبه إلى فقرات تبدو وكأنها ملتصقة ببعضها، بين ما هو تاريخي قديم، وبين واقع وبيئة محددة السمات: الماء والصحراء، وما بينهما تجري معادلات الفن بأطرها: الواقعية- الرمزية- السريالية.
وبألوان غالباً ما تكون معتمة، قليلة الإضاءة في بنية دالّة على انقطاع الماضي والحاضر، وشيوع الأفكار التي تغمر المتلقي بعتمتها.
وهذا خطاب بَصري يجيده الفنان مؤيد برمزيته اللافتة التي تكتنز معرفة جوهرية في التاريخ الاجتماعي القديم والحديث، بما فيهما من .
(4) في لوحاته خطاب انتقادي ساخر، يضيء الكثير من عتمة الواقع إضاءة فكرية أكثر من كونها إضاءة لونية ليست خافية على التلقي العام. بما تشكل جماليات خاصة بلوحاته في نسقية الأفكار التي يصوغها بصَرياً ويمتثل لمضامينها ذات الصلة بين تاريخين؛ ماضٍ وحاضر؛ ورمزيات معنونة إلى الحاضر قبل المستقبل، عبر شخصيات ذات جوهر تاريخي معروف. بما يتوازن في لوحته الدال والمدلول في صياغات ما فوق واقعية لتدوين الأثر الفكري والجمالي معاً.
وبالتالي فالسريالية كمدرسة فنية، لا تحكم مزاج اللوحة عند الفنان مؤيد، بقدر ما في اللوحة من تعبيرية ضامنة تقارب المبنى الرمزي في السريالية، وأحياناً تتخطاه إلى حد ما، كون البيئة العراقية لا تشبه بيئة سلفادور دالي ولا بريتون، اصحاب السريالية الأفذاذ.
ومن ثم تتفرد اللوحة المؤيدية بمناخها المحلي ذي الأصول الميزوبوتامية، عبر ثنائيتين: الصحراء والماء.
(5) يمكن ملاحظة مفردات البيئة العراقية: الجواميس- القوارب الصغيرة - الأعشاب- الأشجار- مفردات زراعية كثيرة تمتاز بها مناطق الأهوار.
وهي تأكيد على محلية المكان، بل إشارة واضحة إلى حركية الزمن أيضاً فيها، لكن في منظور فني أكثر اهتماماً بتجسيد تلك المشاهدات الباطنية التي تظهر في لوحاته، فالرؤوس المقطوعة للأشخاص يتقدمها العماء، وهو ما تجسده العتمة اللونية المائلة إلى الغموض والتشويش، وربما هي إشارة إلى الحاضر الأعمى الذي فرّط بذلك الواقع من باب السياسة على الأغلب.
وكانت الانزياحات المضمونية تشير إلى المستوى الفني الذي بلغه مؤيد في ميله إلى تشخيص الواقع المعاصر بسخرية مريرة، وبألم مرة أخرى.
(6) ومع الخطاب البَصري الواضح للبيئة العراقية، ثمة خطاب معاصر، يتقارب، بل ويندمج معها لتشكيل صورة موازية للوحة في: كرة السلة- آلة العود- الحقيبة- أسلاك الكهرباء- العربة.. وهو ما يلمّح إلى المعاصرة التي تجعل من خلفياتها التاريخية والشعبية والفنية والبيئية رموزاً غير منقطعة عن الحاضر، بموازنات رمزية فيها الكثير من السريالية الباطنية التي تجتمع في اللوحة، لتعبر بأمان إلى رمزيتها ما بعد الواقع، وتجسّده على نحوٍ صريح في وعي فني يهضم كل يجري.. تماماً.