كيف عجزت عن حسم الصراع؟

ثقافة 2024/05/12
...

  فائزة داود


قبل ما يقارب قرنين من هذا التاريخ ولدت طفلة في مدينة ليتشفيلد الأمريكية أطلق عليها والدها الواعظ  وأمها المتدينة اسم هارييت بيتشر، وما كان الوالد ليحلم أن تقود طفلته المجتمع الأمريكي إلى مرحلةٍ جديدة، ليس لأن ترتيبها السابع بين أولاده والمعروف أن الطفل الأول أو الأخير غالباً ما ينال أحدهما أو كلاهما حصة الأسد من الاهتمام والرعاية، بل لأن الأب كان منغمساً في نشاطاته الإنسانية ومحاضراته الوعظية، وبالتالي لم يكن لديه الوقت الكافي لتوجيه طفلته إلى مهمة جليلة وجدت نفسها منذورة لها وكأنها بذلك تستعيد قول جاندارك بأن العذراء طلبت منها حماية فرنسا، على أن هارييت ولقناعتها الراسخة بأنها مكلفة بدور إنساني صارت ظل والدها لا تفارقه أبداً فاكتسبت فصاحته في الوعظ واستمعت إلى كل خطاباته التي تناول فيها الإصلاح الاجتماعي، واتخذت موقفاً معادياً للتمييز العنصري والاستغلال والإذلال ضد السود في الولايات الجنوبية والتقطت ذاكرتها الطفلية معظم النقاشات التي كانت تدور بين المصلح الاجتماعي وهو اللقب الذي كان يطلق على والدها، وبين المناهضين لفكرة العدالة التي تقضي بالمساواة بين البيض والسود، ويبدو أن أسباب والدها وحججه كانت الأقوى والأكثر قرباً إلى تركيبتها النفسية وهذا ما جعلها تتبع خطاه، وظل الأب الذي كان يوجهها إلى قراءة الأشعار والقصص مثلها الأعلى تسير على نور عباراته وقوة حججه وهذا بدا واضحاً بعد طرح قضية تحرير العبيد بشكل رسمي وجاد وتمسك الشماليين بموقفهم الرافض لمساعدة العبيد الذين يهربون من أسيادهم في الجنوب في مقابل موقف الجنوبيين الذين سنوا قانونا يسمح لسلطات الولايات الجنوبية بالعبور إلى الولايات الشمالية ومعاقبة كل من يساعد العبيد الهاربين من الجنوب، عندئذ كان لابد من مواجهة الموقف بكل الوسائل الممكنة، وكانت وسيلة ابنة الواعظ والمصلح الاجتماعي هارييت بيتشر في عرض رأيها من هذه المواجهة هي القلم والذاكرة الطفلية والوقائع المادية الملموسة التي حولتها إلى عمل فني بعنوان (كوخ العم توم) وهذه الرواية التي انتهت من كتابتها في عام 1851 وتم نشرها في كتاب عام 1852 أحدثت بعد صدورها هزة في المجتمع الأمريكي وهاجمها البيض بشراسة وصادرها الجنوب الأمريكي وسنوا قانوناً يحرم كل العبيد من قراءتها، وفي حال مخالفة أي عبد للقانون يحكم عليه بالسجن لمدة قد تصل إلى عشر سنوات، كما هاجم الجنوبيون مؤلفة الرواية واتهموها بالمبالغة وتزوير الحقائق. 

وردت هارييت على هذا الهجوم بكتاب نشرته في عام 1853 بعنوان (حقائق ووثائق رواية العم توم) فيما تؤكد المصادر الأمريكية أن الرواية التي هزت المجتمع الأمريكي دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق ابراهام لنكولن لاستقبالها في البيت الأبيض وذلك في عام 1863 إي بعد عقدٍ ونيف من صدور الرواية حيث رحب بها قائلاً: أهلاً بالسيدة الصغيرة التي أشعلت بروايتها الرائعة حرباً كبيرة، وطبعاً يقصد الرئيس الأمريكي رواية كوخ العم توم التي سلطت الأضواء على معاناة السود في ولايات الجنوب الأمريكي. 

وكما هو معروف فإن الحرب قادها ابراهام لنكولن نفسه، وكانت النتيجة انتصاره في تلك الحرب وصدور قانون تحرير العبيد. 

أياً كانت درجة التأثير الذي أحدثته رواية هارييت بيتشر فثمة حقيقة لابد من التنويه إليها وهي أن الروائية استطاعت في خضم مواجهة هي الأعنف من نوعها في تاريخ الولايات الأمريكية أن تسجل تفاصيل معاناة سود الولايات الجنوبية في رواية تجاوزت شهرتها شهرة مبدعتها ربما بعشرات المرات وطغت على أعمالها الأدبية الأخرى حتى خيل للبعض أنها لم تكتب غيرها، ترى ألا تطرح هذه الحقيقة جملة من الأسئلة والاستنتاجات وجلها يتعلق بدور الأدب في تحديد وجهة الحراك الإنساني، منها على سبيل المثال كيف استطاعت ابنة ذلك الواعظ أن تحدد مسار ذلك المجتمع الوليد؟ هل ينبع ذلك من أهمية الرواية والتي يبدو واضحاً في صدقها ومواكبتها لحدث كان مثار جدل بين الشمال والجنوب؟ أم أن الأمر بكليته نابع من قراءة متأنية وعميقة فرضه أو ساهم به تمسك الأديبة بجذورها وحبها لمجتمعها ولعائلتها والذي بدا واضحاً من خلال  احتفاظها بلقب أسرتها بعد زواجها من البروفيسور كالفن ستو. 

واللافت في تاريخ هذه الأديبة أنها وفي ذروة الأحداث لم تبرح مدينتها ولم تتاجر بقضية تحرير العبيد، بل شاركتهم ثورتهم وتضامنت معهم من دون أن يعنيها الظهور في المجتمع وإطلاق التصريحات والهجوم على أي كان أو إعلان التبرؤ ممن يختلفون معها في الرأي.

أخيراً لابد من التساؤل عن الرواية الفلسطينية وكيف عجزت عشرات الروايات التي كتبها فلسطينيو الشتات عن حسم الصراع لصالح أصحاب الأرض.