طه الهيتي.. معمار الخط العربيَّ

ثقافة 2024/05/13
...

 مرتضى الجصاني

بداية الخطاط طه الهيتي مع الحروف كانت مبكرة، حين كان يرسم اسمه قبل أن يتعلم القراءة، كما يتذكر «تعلمت كتابة اسمي الثلاثي من دون امكانية التفريق بين الاسم الأول والبقية».
نشأ الهيتي في بيئة داعمة، فعندما انتبه والده لولعه بالحروف وهو صغير، اصطحبه إلى المكتبة واشترى له نسخه من كراسة الراحل هاشم البغدادي، ومن هنا بدأ مشواره واكتشف أن للخطوط اسماء وللحروف قواعد، ونسب وقياسات، وضحها له فيما بعد الأستاذ عباس البغدادي، الذي تتلمذ له وهو بعمر 13 عاماً.
*ماهي العناصر التي تجعل المتعلم مشدودا للخط العربي؟
-الخط بصورة عامة فن أصعب نسبيا من بقية الفنون، فالموسيقى تتألف من مجموعه من الأجهزة الموسيقية، والرسم يتغنى بالألوان والظلال، في حين أن الخط يكتفي بالقصبة والحبر وأصابع متمرنة، فلا يترك مجالا لاخفاء العيوب أو الأخطاء، حتى البسيطة منها، لذا فأننا نجد اصرارا لا ينضب عند متعلم الخط، ، فلكل حرف حالات عديدة من التواصل مع غيرها وإن لم يتقنها الخطاط، فهو ليس بخطاط.
كذلك فان الخط وسيلة مخاطبة مباشرة تمكّن الفنان من توصيل رسالة كلامية إلى المتلقي بشكل مباشر، ولهذا قالت العرب «اذا كان الغناء هو الموسيقى المسموعة، فالخط هو الموسيقى المقروءة».
*هل كان لدراستك للهندسة المعمارية أثر واضح في مجال الخط؟
-بدون شك، كما كان لدراستي في الخط أثر على المعمارية، فكلاهما يعتمد على نفس المبادئ الفنية من تناغم وتضاد ووحدة التكوين والتنسيق والتوازن والإيقاع وكل أساسيات الفنون الأخرى. فالتتابع العمودي والأفقي في العمارة في الأعمدة والسطوح يخلق ايقاعا مشابها لايقاعات الحروف، بين المنتصب، والممدود، والمرسل، والمجموع. والتوازن بين الكتلة والفراغ في العمارة هو نفس التوازن المطلوب بين الحروف وتشكيلها في الخط، وهكذا.
والجمع بين “الخط والعمارة” ادهشني دوما وأثار الكثير من التساؤلات في حياتي المهنية والفنية، فلطالما سألت نفسي عن سر غياب الوحدة المعمارية التي نجدها في العمارة الإغريقية أو الرومانية على سبيل المثال، عن مثيلاتها في العمارة الإسلامية. فترى المدرج الروماني في عمان، يحمل نفس الشخصية المعمارية التي يحملها الكولوسيوم في روما، وترى الآثار الإغريقية في لبنان تحمل نفس الشخصية التي يحملها البارثينون في اليونان، في حين ترى أن الشخصية المعمارية الإسلامية في بغداد، تختلف كليا عن تلك الموجدة في إسطنبول والتي بدورها تختلف عن التي في مشهد، والجميع يختلف كليا عما هو موجود في قصر الحمراء في غرناطة، فأين الوحدة المعمارية؟ والجواب البسيط أن الخط العربي هو القاسم المشترك الذي يجعل أية عمارة إسلامية حال حضوره في أي مكان منها.
 * تقيم في لندن منذ زمن. كيف ترى صدى الخط العربي في الغرب؟
-المجتمعات الغربية، وخاصة الاوروبية، فضولية بتحفظ طبيعتها. والخط العربي فن جميل يعني بترويق وتجميل الكلام وحروفه، والجمال جذّاب تعريفا، لذا فأنني أجد انجذاب الغرب إلى الخط العربي مختلفا قليلا. فمتحدث اللغة العربية منجذب أكثر إلى الرسالة التي يحتويها النص، دينية أم دنيوية كانت، في حين أن الغربي منجذب أكثر إلى إيقاع وجمال الحروف وتناسق التكوين أكثر من محتوى
الرسالة.
*لديك تجربة مختلفة في الخط العربي وهي تقع ضمن منطقة صعب التعامل معها كونها بين الكلاسيكية من جهة، والحداثة المفرطة من جهة أخرى، كيف تعاملت مع الحرف؟
-هذا صحيح، فتجربتي مع الفن متلازمة مع تجربتي وقناعاتي المتغيرة في فهم الحياة، فتراني أكتب نصوصا دينية في مرحلة ما، كي اتجاوزها إلى مرحلة التحرر من النص وتمجيد القواعد والتأمل في الحروف بغض النظر عن معانيها، إلى مرحلة العودة إلى النصوص والتجرد من القواعد المتزمتة والتزويق المركز، وهكذا هي التجارب في تأرجح بين الصعود والنزول، والانخفاض والارتفاع.
*نلاحظ في مرحلة ما من أعمالك تركز على استخدام “المشق” لوحة على الرغم من أن هذا الأسلوب استخدمه الاقدمين لكنك تجعل له روحا مختلفة وأيضا جمالية مختلفة حدثنا عن ذلك؟
-ربما هذه هي المراحل التي ذكرتها، “المشق” في الخط يعني الكتابة بغرض التمرين أو التركيب أو التجربة، وعمليا، هي مرحلة الولادة لأي لوحة. عملية الولادة ربما اعجبتني لفترة ما، أكثر من الحياة، والجمال المجرد أفضل برأيي من الجمال المركب، المصطنع.
وهكذا فأن الجمال المجرد بدون تزويق والموجود في حركة اليد العفوية المتمرنة “المشق”، افصح برأيي من التنميق والتذهيب، ولهذا فأنني أميل إلى “المشق” في ابراز جمال وانسيابية الحروف وهي على اصلها البسيط المجرد.
 *في تجاربك الأخيرة هناك مزج بين العمارة و الخط العربي وهذا لم يقتصر على إستخدامها كلوحة بل تجاوز ذلك إلى تنفيذها على الواقع، حدثنا عن هذه التجربة؟
-المزج بين الخط والعمارة تجربة قديمة عرّفت شخصية العمارة الإسلامية، وهي ليست بفكره جديدة.
إنما اعتمد المعمار القديم على تحويل وتسقيط نصوص أفقية «أسطر» من الورق، إلى العمارة بعمليه أشبه قليلا بالقص واللصق، وبرأيي أن هذا نتاج عمل لحرفييّن مختلفين: المعمار والخطاط، ولهذا نجد العناصر المعمارية مستقلة عن عناصر الخط في الاغلب.
ما أحاول تحقيقه في أعمالي، تحويل الخط العربي من عنصر تزويقي غير وظيفي، إلى معماري حي له وظيفة تفاعلية مع بقية العناصر المعمارية، كأن يكون عنصر بيئي لفلترة الضوء والأشعة كالمشربيات «والتي لم يعرف عنها توظيف الخط العربي» أو عنصر انشائي يدخل في تركيب العمارة، أو اجتماعي لتظليل الفتحات وزيادة الخصوصية، وهكذا.
الأمران المهمان هما، أولا تحديث العمارة المبنية تحت الرقعة الإسلامية وبما يتناسب والشخصية المحلية، واغنائها ببنايات ذات شخصية اسلامي حديثة، تتعدى عمارة المساجد، ليكون لنا اسلوب معاصر يتناسب مع الشخصية المعمارية والموروث المحليين، ولا تستنسخ عناصر دخيلة من مدارس غريبة وبعيدة.
الأمر الثاني هو استخدام ذلك الموروث “الخط العربي” بشكل مناسب وتوظيفه كعنصر معماري أو وظيفي يخدم التصميم المعماري ويعمل معه بشكل مباشر، بدلا من أن يقتصر على إضافة تزويقية.
   *هل هناك ضوابط أو شروط محددة في اختيارك للنصوص؟
-أبدا، أي كلمة أو جملة أو حكمة تستهويني، تقود أصابعي إلى القصبة والمحبرة، أنجح مع بعضها، وافشل مع البعض الآخر، انما النص متغير والحروف ثابتة، ولهذا فالحرف والنص مقترنين في الأهمية والتأثير.
المهم أن يكون للعمل النهائي تأثير إيجابي على المتلقي، وهكذا يكون الناتج فنيا، بدلا من
حرفي.
*كيف ترى واقع الخط العربي؟
-ممتاز ولا خوف عليه، انما متكرر بعض الشيء برأيي، واقتصاره على النصوص الدينية يؤكد ذلك التكرار ولا يخدم شعبية اللوحة الفنية. الفنون ملك للإنسان، وليست ملك للأديان أو الدول او الأقوام.
الخطاطون حرفيون في الأغلب دراستهم و خبرتهم حرفية تقتصر على الحبر والورق والنصوص الدينية، وفيه من التزمّت ما يتقاطع وتطور الخط. مع ذلك فهناك جيل من المتأملين المجددين الذين يسيرون بالتوازي مع الموروث والقواعد لتحديث الخط العربي ومنحه شخصية تناسب القرن الحادي والعشرين.