باسم عبد الحميد حمودي يعانقُ سحر الحقيقة

ثقافة 2024/05/13
...

  عادل الصويري

لحظاتٌ من الحزن المسيج بشفافيَّة باسم عبد الحميد حمودي، اجتاحتني وأنا أتجولُ بين النصوص التي ارتجلت حزنها العفويَّ على رحيله الهادئ، تاركاً الندوب على الوجوه التي تتصفحُ الذكريات مع واحدٍ من أشف الكائنات وألطفها، وأكثرها هاجساً ثقافياً وعقليَّة نقديَّة موسوعيَّة في مجالات القصة القصيرة والرواية والتراث الشعبي.
وفي مجمل أعمال حمودي؛ كان التركيز على قضيَّة مهمَّة شغلت بال المهتمين بالنقد وقرّاءه وهي جوهر الكتابة النقديَّة بين كونها راصداً لأسلوب النصّ الذي يتناوله البحث، أو كونها إعادة صياغة للنص وفق منهجٍ معين، فضلاً عن الصلاحيَّة الزمنيَّة للدراسة التي أخذت على عاتقها تفكيك النص، وفك شيفراته اللغويَّة، وشرح الأنساق التي حرّكت كاتبه.
وبمرات عديدة، نوّه باسم حمودي عن أثر نشأته الثقافيَّة، وانعكاساتها على تجربته، حيث الوالد الصديق لأسماءٍ إبداعيَّة كبيرة ومهمَّة في المشهد العراقي، ومكتبة البيت الكبيرة والمتنوعة التي شكّلت الملامح الأولى لتنوّعه المعرفي، وحرّضته على الغوص في مكامن اللذة التأمليَّة أثناء فعل القراءة. هذا الانعكاس يمكن اكتشافه بسهولة من خلال العناوين المتنوعة لإصداراته ودراساته مثل: "الناقد والقصة دراسة تحليليَّة، والسحر ذلك العالم الغامض، والقضاء العرفي عند العرب، والوجه الثالث في المرآة، وسحر الحقيقة، وتغريبة الخفاجي عامر العراقي، وفي دراما قصيدة الحرب، والهامش في التاريخ العراقي"، فضلاً عن عشقه للكتابة في الفولوكلور والموروث الشعبي حيث أصدر فيه "شارع الرشيد" و "عادات وتقاليد الحياة الشعبيَّة العراقيَّة" و"السيرة الشعبيَّة والذات العربيَّة".
كان الراحلُ مدافعاً صلباً عن التراث الشعبي بوجه الهجمات الاستعلائيَّة التي مورست عليه؛ لأسبابٍ تتعلق بالتوجهات السياسيَّة القوميَّة الضيقة، مبيناً أهميَّة ما تركه التراث في الذهن داعياً إلى الاهتمام بإعادة صياغة هذا التراث؛ لأهميته في الحياة المعاصرة، حتى مع مستجداتها المتسارعة، رافضاً أي فكرة للقطيعة مع التاريخ؛ لأنَّ الدراسات الاستراتيجيَّة المتعلقة بعلم المستقبل، بحاجة إلى أفكارٍ واعية، تقف بوجه التحديات المعاصرة التي تعملُ على قلب المعادلة الإنسانيَّة. وهذه الأفكار الواعية يشدد باسم حمودي على جدِّيتها في مخر عباب الأحداث التاريخيَّة؛ وذلك لامتداداتها المتصلة بالحاضر؛ ومساهمتها في إحداث التحولات الكبيرة في خصوصيَّة المجتمعات البشريَّة ومكوناتها الهوياتيَّة، مؤسسةً شعوراً يتمركز في الذهنيَّة الجمعيَّة؛ لأنَّ بعض الكُتّاب يعملون على ثيمة القفز على الهويَّة من خلال منطق يشيح بوجهه عن التأريخ وتمثلاته، والذريعة هي الإطلالة على الحضارة من "شرفة التجربة الإنسانيَّة" معتقداً أنَّ الخصوصيَّة سجنٌ مزعوم. هؤلاء يستشهدون بالتجربة الأوروبيَّة التي شهدت حروباً تدميريَّة، ووصلت إلى ما وصلت إليه من تقدمٍ بعد خروجها من الجحيم التاريخي، بينما راح الغربيون يسوِّقون للقصص الموجودةِ في موروثنا بشكلٍ أكثر جديَّة منّا نحن أصحاب الشأن، وهو ما يراه حمودي نكوصاً كبيراً ومؤسفاً.
وباسم حمودي في دفاعه عن التراث والتاريخ يتوافق مع محمد عابد الجابري في أنَّ أيَّة نهضة عربيَّة إسلاميَّة، سيكون من المستحيل عليها أنْ تتحقق من دون الانطلاق من التراث العربي الإسلامي، والذي يتمثل في العقيدة والتشريع واللغة والأدب وعلم الكلام، فما الذي سيبقى من الهويَّة وخصوصيتها في حال الانفصال عن كل هذه القيم؟ الأفضل أنْ تكون لنا تصوراتنا واستقراءاتنا الخاصة بتاريخنا؛ حتى نؤصل بها وجودنا وثقافتنا، ونمهد لمستقبلٍ مضيء من دون الاتكاء على تراثٍ آخر أو الانتظام فيه بشكلٍ عشوائي.
هكذا كان باسم عبد الحميد حمودي الذي تركنا نعومُ بلوعة غيابه واستذكاره الذي يمثل مسؤوليَّة كبيرةً تجاه أحد الرائين الكبار، والشاهدين على التحولات التي حصلت على المجتمع العراقي وثقافته. هذا الاستذكار هو جزءٌ ضئيلٌ من الاحتفاء بأحد مؤسسي العقل المحتفل بالمعرفة.