عدنان الفضلي
في سنواته القليلة الأخيرة دخل الأديب الراحل باسم عبد الحميد حمودي معتركاً سردياً خشي كثيرٌ من مجايليه الخوضَ فيه، ذلك هو نفض الغبار عن حقبة تاريخيَّة ما زالت مثار جدلٍ نصفي النخبة العراقيَّة، وأقصد الحقبة الملكيَّة في سنواتها الأخيرة متلاصقة مع حقبة على مساسٍ بها، وهي حقبة تأسيس الجمهوريَّة الأولى على يد الزعيم عبد الكريم قاسم، فهذه الحقبة التي تتجاور لمدة تقل عن العقد الواحد من السنين، لم يتفق عليها وحتى يومنا هذا ما يمكن تسميتهم بنخبة المجتمع العراقي سواء كانوا مثقفين أو سياسيين، مع وجود اتفاقٍ يصبّ لصالح الزعيم على حساب الملوك وهو ما يتفق عليه فقراء الجنوب العراقي الذين يجدون فيه وحتى هذا اليوم أنه الرئيس الأوحد الذي انتصر لهم وحققَ لهم بعضاً من أحلامهم أو أمنياتهم البسيطة والمتمثلة بحق الحصول على سكن بدرجة الامتلاك.
نترك ما يختلف أو يتفق عليه النخبة سياسياً واجتماعياً ولنذهب عند منجزٍ سرديّ مهمٍ تركه لنا الراحل الكبير باسم عبد الحميد حمودي، وهو النص الروائي الكبير "الباشا وفيصل والزعيم" الذي ملأ الدنيا العراقيَّة، وربما العربيَّة وشغل الناس المهتمين بالعلاقة المشتبكة بين أبطال عنوان تلك الرواية وهم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد، وملك العراق في خمسينيات القرن الماضي فيصل الثاني، ومؤسس الجمهوريَّة الأولى ورئيس وزراء العراق الأسبق عبد الكريم قاسم، حيث نصّب كبيرنا الرحل باسم عبد الحميد حمودي نفسه قاضياً روائياً يحاكم من خلال نصه الروائي هذا الثلاثي المؤثر في تاريخ العراق الحديث.
حمودي وفي محاكمته هذه المليئة بالواقع والخيال، نفض غباراً عن أحداثٍ كثيرة عايشها بنفسه وهو المولود في العام 1937 في العاصمة بغداد، حيث إنَّه ورغم معايشته الأحداث عن كثب ومعرفته ببعض خفاياها، لم يترك للسرد التاريخي مهيمنات على نصّه الذي يرويه، بل غمسه بكثيرٍ من فنتازيا أراد لها أنْ تكسرَ المهيمن التاريخي وتأتي بمهيمنٍ روائي ممتزجٍ بين الخيال والواقع، وهذا الكلام يعترفُ به حمودي نفسه حين يقول عن روايته "التاريخ الذي عايشته وعاصرته، لا بُدَّ أنْ يحتاجَ إلى طريقة لمزج الخيال بالواقع عن طريق الأسلوب الفنتازي".
لمن انتصر حمودي في هذه الرواية.. للباشا أم للملك أم للزعيم؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه بعد قراءة هذا النصّ الروائي الفخم، والجواب سيكون خاتمة مقالي هذا، فمن خلال علاقتي بالراحل كوني أحد تلامذته وزاملته في عملي الصحفي في جريدة المدى، وكنا أصدقاءً جداً رغم الفارق العمري والإبداعي بيننا، كنت أعرف أنه لا يرى بما حدث انتصاراً لأي طرفٍ على الآخر، لكنه يميل ولو بنسبة قليلة الى الزعيم ولأسبابٍ تتعلق بفترة حكمه القصيرة المليئة بالمنجز.
حمودي وبالفعل الفنتازي حاكمَ كلَّ الأطراف ووبخ كثيراً منهم عبر جملٍ ومفرداتٍ وردت في المتن الروائي، لكنه وبالفعل الفنتازي ذاته حاول مصالحة جميع الأطراف عبر عتابات حواريَّة وعتبات مجازيَّة الهدف منها عدم إدخال أي طرفٍ الى الزنزانة، ولعلَّ ما يجب التوقف عنده هو أنَّ حمودي قام باستدعاء الأطراف الثلاثة وأعادهم للحياة ليتعاتبوا على ما حصل في تلك الفترة.
من أجواء الرواية
"لماذا فعلت ذلك؟ هل نستحق ميتة كالتي حدثت؟".
طبعاً السؤال هنا موجهٌ وبحسب المتن الروائي من الملك الى الزعيم، بعد حادثة مقتل العائلة المالكة التي ارتكبت إبان ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وهو سؤالٌ ليست فيه خشونة أو تقصد إهانة أراد لها الروائي أنْ تكون بمثابة عتبٍ ليس إلا.
المقال هذا ليس نقدياً لذلك أركز على الهدق الأسمى الذي سعى إليه كاتب الرواية، ألا وهو عدم الانحياز لشخصٍ على حساب آخر في موضوعة لا يمكن التوفيق بين متبني خانة الإيمان بصدقيتها أصلاً.
يقول حمودي عن هذه الرواية أيضاً إنَّ فكرة الرواية تقوم كذلك "على إدانة القتل للخصوم السياسيين من أجل تغيير مسار الحياة السياسيَّة بالقوة".
بمعنى أنَّ فكرة الرواية كانت محاولة من حمودي نفسه لمنع الإيمان بالقوة كحلٍ دائمٍ لتمشية العمليات السياسيَّة بين الخصوم، فالحوارات الموجودة في المتن الروائي كانت كلها تصبُّ في مجال محاكمة أخوية على أخطاء ارتكبها أخوة الوطن في فترة ما، تسببت في ما بعد بجعل القوة هي المهيمن الأول في حدوث أي تغييرٍ سياسي شهده العراق بعد ثورة تموز، وهو ما كان حمودي يرفضه تماماً ويدعو في كثيرٍ من خطابه الروائي هذا الى نبذ العنف والركون الى عمليَّة سياسيَّة خالية من الدم والعنف والقتل، وتلك من صفات راحلنا الكبير باسم عبد الحميد حمودي.
أما إجابة السؤال أعلاه فهي: أنَّ حمودي لم ينتصر للباشا أو الملك أو الزعيم، بل انتصر للعراق وحده، كون راحلنا الكبير من الشخصيات الوطنيَّة التقدميَّة التي تؤمن بعراقٍ مسالمٍ ومتسامح.