د. نصير جابر
باسم عبد الحميد حمّودي أنموذجٌ نادرٌ من المثقفين العراقيين الكبار ممّن نجوا ونجحوا في الخروج من النخبويَّة العاجيَّة التي تمترست داخلها أغلب رموزنا الثقافيَّة – خاصة من جيله والجيل اللاحق له - فهم في مكانٍ ما، مكان بعيد جداً عن إيقاع الشارع ونبضه، مغلفين أنفسهم بفقاعات حامية عن "عوام" الأدباء والكتّاب! وهم عادة لا يتواصلون مع أجيال شابة "ناتئة" جديدة، لأنّ سلطة المعرفة والعمر والثقافة تمنعهم من ذلك بحسب ظنهم!
وتنحصر صداقاتهم مع عددٍ محدودٍ من معاصريهم ومجايليهم، لذلك تكاد تنعدم في الوسط العراقي تلك الألفاظ "الشعبيَّة" التي تكسر حاجز الرسميَّة بين الأديب وزميله، كما نجدها في الوسط الثقافي المصري مثلاً.
ويبدو أنَّ السياسة التي شكّلت العقل المصري مختلفة عن التي شكّلت العراقي، لذا انعكس هذا الأمر على الوسط الثقافي. كما انعكس على النتاج العراقي كلّه.
لكنَّ باسم عبد الحميد حمودي، الرجل الذي كان حاضراً بقوة منذ بواكير وعينا كان ظاهرة مختلفة، إذ كسر ذلك الحاجر واندك وسط الناس، معتبراً أنَّ وظيفته ككاتبٍ وقاصٍ وتراثي وقبل ذلك كلّه مدرس ومعلم تحتم عليه تلك الصيرورة الثقافيَّة التي عاشها، ولعلَّ عوامل عديدة أسهمت في تشكيل شخصيته الجميلة تلك.
فقد عاش الرجل في مناطق مختلفة بسبب عمل والده ومن ثم عمله هو، إذ تنقل في مناطق كثيرة في الفرات الأوسط، منها الديوانيَّة التي سكنها فترة ليست قصيرة، حيث درس ودرّس في مدارسها وله طلبة كثر يتذكرونه حتى الآن كمدير مدرسة شديد وحازم ومعلم معرفي حريص ومتواضع، كما كان لاهتمامه المبكّر وولعه الكبير بالتراث والفولكلور العراقي سبّبٌ في ذلك، فالتعامل مع الفولكلور تعامل مع هويَّة محضة. لا تعامل مع اتجاه محدّد ممّا جعله يبتعد -أو هكذا افترض – عن المواجهات العدائيَّة الثقافيَّة التي كانت سائدة. ولعلّه من نافل القول أيضاً أنْ نقول إنَّ طبيعته الشخصيَّة المحبّة الودودة كانت الفيصل في جعله على ما كان عليه. لذلك كان الطبيعي أنْ يصفه الكثير ممّن رثاه بألفاظٍ غير رسميَّة، ألفاظ محبّبة تبعده عن المثقف الإشكالي، المأزوم الذي يكون موته مناسبة لفتح مسارب الاختلاف معه. فهو عمّ الأدباء، كما نوّه بعض الكتاب الشباب وهم ينعونه! وتلك الإشارة - على بساطتها وعفويتها- ظاهرة نادرة في الوسط الأدبي، فقلما نتفق على أديبٍ بهذه الكيفيَّة التي تبدّل موقعه الرسمي إلى موقع شعبي.
بدأ الرجل حياته مقالياً، وقاصَّاً وفولكلورياً وتراثياً ثمّ ختمها روائياً، إذ أصدر عام 2023 روايته القصيرة "الباشا وفيصل والزعيم" التي أراد بها كما أظن أنْ يحسمَ إشكاليَّة عانى منها هو طوال عمره، فقد عاش "21" سنة في العراق الملكي، وتعلم في مدارسه، ثم رأى مصرع العائلة المالكة المروّع، ثم عاصر الزعيم قاسم شاباً، ورأى إنجازاته المهولة، فضلاً عن معاصرته لرموزٍ ثقافيَّة عديدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ما جعله أقدر من غيره على هذه السرديَّة التي خبرها تجربة حياتيَّة واقعيَّة أكثر من كونها تجربة فنيَّة روائيَّة.
حمودي نجح كذلك - وهو الرجل البعيد عن التقنيات الحديثة- في طرح نفسه مدوناً في مواقع التواصل، فكان فاعلاً يعلّق ويناقش ويعترض لكنْ من دون تلك العدائيَّة والاستعلائيَّة.
وهنا ونحن نودعه إلى الأبد تبدو حياته الطويلة، المديدة لمن يتأملها الآن وكأنّها حكاية شعبيَّة جميلة، حكاية بدأت وبولادته وانتهت برحيله بعد سنوات وإنجازات ستظلُّ حتماً واحدة من علامات الثقافة العراقيَّة الرصينة.