الذئب

ثقافة 2024/05/14
...

 شهد الزبيدي 

ثقافيات الصباح تحتفي اليوم بنصوص الأدباء الشباب الذين فازوا مؤخرا بمسابقة الأدباء الشباب، دورة الشاعر بدر شاكر السياب في حقلي القصة والشعر. 


لم يكن أماميَ خَيارٌ آخر، كان عليّ أن أقفَ على قَدَميّ واخرُج بالرغم مما قد أُواجه من انتقادات. كنت على حالي هنالك مع القطيع، منزوياً بصمت، أسمعُ ثُغاء أصحابي وأحاديثهم المُملّة، مؤخراً، يصيبني كلّ ما يقولونه بالاشمئزاز، أكاد أن أقولَ لأحدهم فُجأة: "ما بك! هل أنتَ خروف!". وكنتُ قد فعلتُ حقيقةً، بلا ارادة منّي في احدى نُزهاتنا العشوائيّة لزميلٍ لي كانَ يُصرّ على أن يُواجه صاحبه باللينِ والعطفِ بعدما اساءَ ذاك الأبلهُ له، فقال: "بالطبع انا خروف، لكنّ لا صِلةَ بين هذا وذاك!". منذ ذلك الحين صار الجميعُ يتلافى الحديثَ معي، سمعتُ أحدى المجموعات تقول بأنّ لي افكاراً بَشريّة، شعرتُ بالإهانةِ بحقّ، ومنذ ذلك الحين وأنا من اتّخذ حالَ الانعزال والبُعد حتى يعتذرَ أحدهم. لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لكن وبعيداً عن كلّ هذا، كان هنالك ما هو أهمّ بكثير، وما هوَ أكثر ارعاباً من الشَتيمة الحقيرة التي جاؤوا بها.. كنتُ أشعرُ بأنّ ذئباً في بَطني.

عندما أتمشّى وآكل وأركض واتعارك، اشعر بأنّ بُطانة معدتي تُؤكل، شيء ما يعضّ عليها، يشدّها، ويمزّقها، وفوقَ هذا كلّه، أشعر بالقِطعة التي اجتثّها من جسدي تُمضَغُ ما بينَ أسنانه، وهذا ما اكّد لي انّه ذئب، لأنّ اسنانه حادّة، وأطراف اذنيه المُدببة تنخز معدتي من الداخل حينَ يرفع رأسه، وتشقّقها حين يحرّكه يميناً ويساراً. الألم الفَظيع يسقطني ارضاً، يتركني للأرقِ والمَرَضِ طوال الليل، أئنّ وحيداً بلا صديقٍ أو زميل، أشعر بدَمي ينزفُ في أعماقي ويختلطُ بسوائل معدتي، واشعرُ به يُشرَبُ كأنّه عصير! لم اعد احتمل الألم.

بعد ثلاثة ايّامٍ من مُراودةِ هذا المَرَضِ لي قررتُ بأن أُنهيه، وما بينَ الخرفان الغبيّة نَهَضتُ على قَدَميّ الاثنتين ووقفتُ شامخاً وقلت: "أنا ذاهب، واللعنة عليكم جميعاً!". فَزعَ الجميع في بادئ الأمر وكانوا ينظرون إليّ بنظَراتٍ متعجّبة وخائفة، نعم، إن المُميّز والمُختلف مُهاب. تركتهم في رهبتهم ورحتُ اتمشّى إلى السياج خارجاً من بؤرة القذارة التي لا يعرفُ فيها احدٌ مساندةَ أحد.

***

قالَ خروف:

 -  ما به؟

ردّ رفيقه:

 -  دعكَ منه، كلّما قامَ بشيءٍ ما راح مُطلقاً عباراتِ الحماسة والاختلاف وغيره.

قالت غنمة:

 -  أظنّه قد تخيّل بأنه مميّز حينَ وقفَ على كلتا رجليه.

ردّ السابق:

 -  نعم، هوَ لا يدري أننا نستطيع ذلك، غيرَ اننا مُرتاحون على اربع أرجل.

 -  هل تظنّ بأنه سيتعافى؟

 -  هذا؟ لا يا صديقتي، سيزدادُ مَرَضاً.

***

خرجتُ من المزرعة واتّجهتُ نحو المدينة، بالطبع كانت الشوارعُ جميعها في حالة صدمة، لكنّ هذا لا يهمّ. الألمُ يأكلُ بطني، اشعرُ بالذئبِ يكبُرُ في امعائي، اخاف حقّاً أن يكبُرَ حتّى يُغلقَ المريء، كيفَ آكل حينها؟ سحقاً! دفعتُ بابَ أحد المجمّعات الصحيّة ودخلتُ على أحد الأطباء هربَ المريضُ بلا سؤال، ولم اهتمّ لأركّزَ على ردّة فعله اساساً، جلستُ قبالة الطبيب وقلتُ له: "هنالك ذئبٌ في بَطني. اخرجه". هزّ الطبيب رأسه، فركَ عينيه من تحت نظاراته ونظرَ اليّ جيداً، قلت: "هاه؟ لازلتَ تراني خروفاً؟", قال: "نعم". ثغوتُ فقفزَ مرعوباً واطلقتُ ضِحكةً عالية! لم أكن لأتركَ هذه الفرصةَ تفوتني! لكنني جررتُ الموقفَ من ياقته للجِدّية مجدداً وقلت: 

-   اخرجِ الذئبَ من معدتي. الآن.

 -   سيدي! لا يمكن أن يكونَ في معدتكَ ذئب!

  -  وما ادراكَ أنت؟ الألم يقتلني! لو كانت ليَ انياب كنت سأمزّق وجهكَ لشدّة ما اعاني في هذه اللحظة! 

 -   اعتذر! اعتذر!، هل يا ترى تقصد بأنّك.. تحملُ ذئباً في احشائك؟ أعني.. هل هو مولودٌ حديث؟ 

 -   سُحقاً! البشر أغبياء! كيفَ لي وانا فَحلٌ أن أحمِلَ بكائن! وَذئب؟ هل تراني مجنوناً او شيطاناً؟

 -   حاشاكَ سيدي! أنا المجنون!.

 -   نعم انا سيّدُك، وأنا اقولُ لكَ انّ في معدتي ذئب! انّه يأكلُ احشائي! فسّر ليَ نُضجه في معدتي واختياري تحديداً وأخبرني عن مصيري واخرجه!

 -   سيدي، أرجوك، فقط.. دعنا نتحدث قليلاً.. هل فكّرتَ في الذهاب لطبيبٍ نَفسي.

رميتُه إلى الحائط والتقطتُ احدى ادواته الحادّة وقفزتُ فوقه وأنا اثبّتُ الأداة عندَ حَنجَرَته: 

 -   اجري ليَ العمليّة في هذه اللحظة، واخرجه، أو أخبرني ما قصّته.

قال مرتعداً وقد بَللَ الأرضَ تحته: 

 -   سيدي.. سيدي، أنا طبيبُ أسنان!.

صرختُ في وجهه صرخةً مُدَوّية وفي تلكَ اللحظة تحديداً انبثقَ من فمي - وكأنني تقيأتُ حيث صارَ مَريئي يسترجعُ بقوّة مؤلمة -  رأسٌ الذئب الكَبيرة التي كادت أن تمزّقَ وجه الطبيب لولا تراجعي إلى الخَلف! وحالَ سقوطي على ظهري كانَ الذئبُ قد عادَ إلى مكانه في احشائي. ارتعبتُ وقد خَمَدَ الطبيب.. لا أدري أن كان قد ماتْ، لا يهمّ، تركتُهُ وهربت إلى شوارع المدينة أبحث عن الطبيب الملائم، كان جميعُهم يعطونني ردّ الفعل ذاته، تدور بيَ الأفكار والمخاوف، ولكنني حتى ساعة معيّنة حينَ احتلّني اليأس صرتُ أفكّر في تقبّل ذلك وبناء تصوّرٍ فيما يخصّه، أظنّ بأنني أتحوّل إلى ذئب، إذ أن شعري صارَ اسوداً، وعينايَ اوسع واعمقَ لوناً. أنا في حقيقة الأمر وُلِدتُ لأكونَ ذئباً، جئتُ بِهيئة خروفٍ على حالةٍ من الخطأ.. وها هوَ الإله يعدّل غلطته الفادحة تلك، نعم هذا هوَ ما عليه الأمرُ كلّه.. لا أريد شيئاً الآن سوى أن ينتهي الألم الفظيع لعملية التحوّل، وأن لم تكن عمليةَ تحوّل، فأريد أن افهمَ الامر وانهيه بسلام. سَكَنَت افكاري للحظة.. فكّرت بصوتٍ عالٍ: "أن كنتُ سأتحوّل إلى ذئب، سآكلُ كلَّ من كان معي في القطيع". 

في تمام الثانية عشرة ليلاً دلفتُ مستشفىً، ووجدتُ طبيباً جرّاحاً في أحدِ الغرف، وحسبَ تجربتي مع السابِقِين، اخترتُ أن أكون أكثر اتزاناً، فوقفتُ بقامةٍ منتصبة، ووضعتُ يدايَ خلف ظهري، وقلتُ بوجه سمحٍ وبعينينِ واثقتين: "عذراً دكتور، هلّ لكَ أن تساعدني في أمرٍ ما؟". لحسن الحظّ، لم يهتمّ الدكتور أو يرتابَ هيئتي، قالَ باعتيادية:

 -   نعم تفضّل.

 -   منذ عدّة ايّام وأنا أعاني من ألمٍ في معدتي، ذئبٌ يأكلُ أحشائي، وقد حدَثَت عدّة مواقف حيثُ أندفعَ هذا الذئبُ من فمي وكاد أن يقتلَ أحدهم، أريد منكَ أن تجري إليّ عمليّة وأن تخرجه من بَطني.

نظر إليّ الطبيب من فوق نظاراته الدائريّة الصغيرة ثم قال وهو يهتمّ بما فوقَ مكتبه:

 -   هل تعاني من أيّ آلامٍ في اللحظة الحاليّة؟ 

 -   حسناً، في اللحظة الحاليّة لا، أشعر بشيء من الراحة في حقيقة الأمر. 

 -   اذن لا شيءَ لمعالجته أو اخراجه.

 -   أنا متأكّد بأن الألم سيراودني مجدداً في وقتٍ لاحق، أرجو أن تفحصني أو أن تفعلَ شيئاً.

تنهّد الطبيبُ بعمق وقال بملل:

 -   ماذا كنتَ قبل هذا؟ 

 -   ماذا؟

 -   ماذا كنتَ قبلَ أن تصيرَ بشراً؟ 

 -   بشراً؟ أنا خروف! 

أدارَ الطبيب المرآة إليّ لأرى فيها انعكاساً واضحاً لبشريّ يُلائمُ حركاتي!  قلت والجنون يضربُ بابَ رأسي:

 -   مهلاً، كان من المفترض أن اتحوّلَ إلى ذئب! كيفَ صرتُ بشراً! 

 -   ما هيَ أنواعُ المشاعر التي راودتكَ في آخر ساعةٍ أو ساعتين؟ 

 -   حسناً، كنتُ أمشي بينَ الناسِ وأشعرُ بأنني افضلُ منهم جميعاً.. كنتُ أشعر.. أشعرٌ بالعَظَمة! ليست تلك العَظمة المُطمَئنّة، بل تلك العَظَمة التي تُخالطها الرَيبة والحذر، التي تشعرني بحاجة ماسّة ومرعبة في أن آكلَ من حَولي لأُحافظَ عليها!

 -  نعم، لا تشعر الذِئاب بشيء كهذا، إنّها مشاعر بشريّة بحتة، لكن الصورة الأنقى للبشر هم الذئاب، لذلك السبب؛ ما كان في جوفكَ ذئب، لكن البشر أشدّ ضُعفاً في حقيقة الأمر، وأنتَ تحوّلت إلى الصورة الاعتياديّة للذئاب، تحوّلتَ إلى الصورة 

المشوّهة والتي يخالطها الضعف، تحوّلتَ بَشَراً.


(من مجموعة "عند أطراف القرى"  الحاصلة على المركز الأول في القصة)