آن فرنك.. حياة لا تنسى

ثقافة 2024/05/14
...

  أسمهان حطاب العبادي


«أقوى شيء في الكون كله، أقوى من الجيوش، وأقوى من القوى المجتمعة للعالم بأسره، هي فكرة آن أوان خروجها إلى النور». 

فيكتور هيجو


ولدت آن فرنك في كاليفورنيا عام 1929 وكان الدها ضابط ورجل أعمال متقاعد، ترأس عملا في شركة «اوبكيتا» بامستردام لإنتاج المكملات الغذائية والمربى في 1942، بعدها صدر أمر يتعين على جميع اليهود مغادرة هولندا، خصوصا بعد احتلال النازيين، وهنا تلقت شقيقة «آن»، استدعاء إلى معكسر عمل في المانيا النازية، لذا قرروا الاختباء في قبو يقع في الجزء الخلفي من منزلهم، لتجنب الاعتقال، ولتسجل «آن» جميع الأحداث والمشاعر والأفكار وتؤلف قصصا تساعدها في قضاء أيامها في الملجأ.

أما وقت نشر «مذكرات طفلة» التي من تأليف آن فرانك وترجمة زوي نبيل ومراجعة وتقديم د. جمال حسين علي، فهو حين حث وزير التربية والتعليم الهولندي على حفظ الوثائق واليوميات التي تشهد على معاناة الشعب خلال سنوات الحرب.. لذا قررت اعادة كتابة وتحرير ملاحظاتها، وتحويلها الى سرد واحد اسمته «ملجأ». اليوميات تحوي تجاربها أثناء الاختباء باعتبارها إحدى ضحايا «الهولو كوست» مع الاحتلال الالماني لهولندا.

المذكرات كانت لعامين من الاختباء انتهت المدونات باكتشاف الشرطة ملجأ العائلة، فضلا عن ثمانية أشخاص آخرين. حفظ المذكرات والأوراق، كان على يد أثنين من المتعاطفين مع العائلة. وتم ترحيل العائلة إلى جهاز الأمن الالماني ثم سجن امستردام حتى محتشد الموت أو شفيتيز.عبر رحلة شاقة استغرقت ثلاثة أيام بالقطار من دون طعام وشراب، كما واستخدمت البرميل كمرحاض.. لقد تسببت سنوات السجن في مرض «آن» ليصل وزنها الى 35 كيلوغراما، ثم تتوفى على اثر اصابتها بمرض التيفوئيد والإرهاق في المعتقل.

نشر والد «آن» المذكرات بعد أن حذف منها كلمات وعبارات مسيئة لوالدتها ومقاطع أخرى، وقد كانت طريقة كتابتها عبر رسائل لصديقة خيالية تدعى «كيتي»، ثم بدأت تأخذ شكل رواية، استخدمت فيها اسماء غير حقيقية لعائلتها وسكان القبو، لقد نشرت المذكرات تارة وهي معدلة، وتارة أخرى موسعة من دون تغيير.

أما مكان دفن «آن» وأختها، فهو في مقبرة جماعية بإقليم معسكر بيرغن، يزورها آلاف الأشخاص كل عام، ويضعون الشموع وأكاليل من الزهور عليها عبارة «المحبوبة التي لا تنسى». كما وخلدها أبناء بلدها بوضع اسمها على العديد من المحافل التي تتناول تاريخ المانيا والعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان والمرأة والطفل.

اليوميات تبدأ بتدوينها من يوم ذكرى ميلادها وهي سعيدة باستلام الهدايا، وفتح الأغلفة ثم أيام دخولها بناية العمل الخاصة بأبيها والتي اصبحت مخبأ للجميع.. تصف لنا السلالم الخشبية والممرات السرية، وكيف تم تجهيز الحمام وأدوات المطبخ وتخزين الأطعمة والحبوب في صناديق، وتفاصيل تتعلق بتقسيم العمل.

خزنت أيضا كتبا للقراءة، كما ويمكنهم سماع الراديو وتتبع أخبار الحرب، وكان معهم من يساعدهم في شراء ما يحتاجونه، رغم ذلك كان شعورهم بأنهم في سجن يلازمهم كما الخوف والقلق. وقد تمر أيام طويلة من دون أن تدون مذكراتها، لأنها تجد ألا جديدا  فيها..  مجرد روتين وضجر، فضلا عن توبيخ والدتها المستمر وما يصاحب ذلك من مشاحنات مع اختها «مارغو»، وكذلك الحرب النفسية التي يعانيها الجميع في ملجأ تقسم عبره أوقات دخول المراحيض. 

الخوف المستمر في لحظات قصف الطائرات وأصوات الاطلاقات النارية المتكررة جعلهم يتوقعون النهاية في أية لحظة.. لذا فقد حرصت الفتاة على أن تكتب وكأنها مرسلة الى صديقة، وهروبا من مرارة هذا السجن تتخيل نفسها قد ذهبت واستقرت في سويسرا، وكيف تمكنوا من اقتناء الأثاث الجديد، وأصبحت لها غرفة، وكذلك تحدثت عن رغبتها بشراء أحذية ومعاطف دافئة وفراء ناعم وسراويل نظيفة وألبسة مدرسية.

بين الحين والآخر تصلهم أخبار عن اصدقاء لهم من اليهود وهم يُحملون بعربات مخصصة للحيوانات يتم نقلهم إلى معتقلات بعد أن تحلق رؤوسهم، ومعاملتهم سواء من الرجال والنساء والأطفال بشكل قاس، فضلا عن قتل كثير من اليهود والإبلاغ عن أنه حادث عرضي.

سجلت الراوية ما يحدث لهم من تقليص للحريات عبر التنقل وأوقاته سواء كان «بالباصات أو الترام»، وما يعانون في عدم السماح لهم بارتياد السينما والمسارح والمسابح، فضلا عن عدم السماح لهم بممارسة أي شكل من الرياضة وغيرها من الأمور التي منعت من دون نقاش.

استغل سكان المخبأ وقتهم بقراءة الكتب وقامت الراوية بترجمة بعضها، اضافة الى تبويب المكتبة نتيجة اختلاط المؤلفات ببعضها البعض، ووضعهم الذي بدا بشكل غير صحي في المخبأ.. كان يتمرض بعضهم ويضطرون لعلاجه بوسائل وعقاقير بسيطة مما يستغرق الشفاء لأيام طويلة، وهذا ما حدث بالضبط مع والدها حينما أصيب بالحمى، كما وتحدثت عن المشاحنات التي كانت تظهر عدم الاتفاق في ما بين المقيمين معهم، على الرغم من أنهم كانوا جزءا من سر المخبأ.

المتصفح لهذه المذكرات يجد أن الطفلة «آن» قد سبقت سنها، فهي تناقش اسئلة وجودية هامة جاءت من عقل متفتح، منها «لماذا يسعى الناس لإخفاء شخصياتهم الحقيقية، لماذا نمارس أمام الناس سلوكا يختلف عن الذي نفعله لوحدنا، لماذا لا يثق الناس ببعضهم البعض، لماذا لا يملكون الوضوح في حياتهم؟ كما تناولت طبائع البشر من «مكر، خداع، جشع، أنانية، نفاق، ازدواجية، احتيال، عدم الثقة بالآخر»، وكذلك في تغير المرء وأفكاره وآرائه تجاه نفسه والآخرين، حيث ينسلخ من شخصيته القديمة.

طريقة سردها لليوميات اتصفت بالبساطة والعفوية، بوصفها مجال وفسحة للتعبير عن الذات غير المتآلفة مع واقعها بلا صداقات، لتتخيل صديقة وتتحاور معها وتحاكيها بالمخفي من مشاعرها أفراحها وأحزانها، لكونها عانت من سخرية من هم أقرب الناس إليها «عائلتها»، فهربت من واقعها نحو الأوراق.